سوريا والتحريك الديمغرافي

ت + ت - الحجم الطبيعي

يغص التاريخ بنماذج من الترحيل القسري لمكونات بشرية بأكملها أو أجزاء منها، حتى باتت ظاهرة متكررة يمكن القبول بتبعاتها الكارثية بالتقادم أو بحكم الأمر الواقع الذي يفرضه بالقوة، الجانب الأقوى في أي صراع.

أما التسميات التي صاحبت هذه الظاهرة فقد دخلت القاموس السياسي الإنساني بأشكال متباينة، مع بقاء مضمونها على حاله في جميع الحالات على اختلاف سياقاتها، لا بل إن صناع تلك النماذج قد أوغلوا في فرض إراداتهم على الجانب الضعيف، وفرضوا عليه شروطهم وما تفتقت عنه أهواؤهم الشاذة والمنافية لأبسط حقوق الإنسان، المتمثلة في حرية المعتقد والحفاظ على الهوية والأرض.

ورغم بشاعة هذه الظاهرة وما يترتب عليها من نتائج، إلا أن الانزياحات القسرية لمكون أو أكثر من مكونات شعب واحد، على يد مكون أو أكثر من الشعب نفسه، تبقى هي الأخطر على الإطلاق، لما تولده من مشاعر عداء وثأر وانتقام، سرعان ما تصبح متجذرة، يصعب اقتلاعها من أذهان تلك المكونات التي ينتابها شعور تاريخي بالظلم والغبن، ما يدفعها، بداهة، إلى محاولة استعادة حقها في العيش في وطنها الذي انتزعت منه عنوة.

من نموذج الأندلس وطرد العرب واليهود منها على يد ملوك إسبانيا، بالتحالف مع بقية الممالك والكنائس الأوروبية، إلى تهجير الشعب الأرمني من دياره، إلى النكبة الفلسطينية، بوصفها نماذج دارت رحاها بين شعوب وأقوام مختلفة، وصولاً إلى جزيرة كوبا في البحر الكاريبي، عندما عمد نظام فيديل كاسترو مطلع ثمانينات القرن الماضي، إلى منح الكوبيين حرية الاختيار بين البقاء في وطنهم خانعين لسلطته أو الرحيل إلى الشاطئ الآخر من الكاريبي، واختار عشرات الآلاف منهم الرحيل مع بقاء عيونهم مصوبة على جزيرتهم الحبيبة إلى أن تحين لحظة العودة إليها..

كلها نماذج تهون أمام النموذج السوري الحالي، الذي يندرج ضمن التصنيف الثاني، لأن طائفة النظام، وليس نظام الطائفة هناك، هي التي تعمد، هذه المرة، إلى ما أطلق عليه، أردنياً على أقل تقدير، «التحريك الديمغرافي»، عطفاً على تركيز العمليات العسكرية للنظام على منطقة حوران الملاصقة للحدود الأردنية والمتداخلة معها تاريخياً واجتماعياً ووجدانياً، وذلك بالتزامن مع إطلاق حملة إعلامية شرسة، يتهم فيها النظام السوري السلطات الأردنية بإعطاء قوى المعارضة السورية المسلحة، الفرصة لاستخدام الشمال الأردني كنقطة انطلاق لهجوم كاسح نحو الجنوب السوري، بما فيه العاصمة دمشق.

في قراءة سريعة لهذا النوع من العمليات العسكرية المكثفة، تظهر حالة من التجاوز الصارخ للمنطق العسكري والأمني، عندما تستهدف السكان المدنيين وتخلط عمداً بينهم وبين من يحمل السلاح من الثوار السوريين، وبتجاوز الأهداف العسكرية، يتضح الهدف الاستراتيجي منها، والذي لا يخرج، بأي حال من الأحوال، عن منهج تفريغ الجغرافيا السورية من محتواها الديمغرافي غير المرغوب فيه.

Email