أم سعد في خيمتها

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما من شخصية روائية نفذت إلى العقل الجمعي لمجتمع ما، مثلما فعلت شخصية أم سعد في أدب الراحل غسان كنفاني، ليس لأنها مشبعة بما يلزم من عناصر الدراما والإثارة والتشويق فحسب، بل لأنها أصبحت لسان حال مجموع الفلسطينيين، واللاجئين منهم خصوصاً، أينما حلوا، وتحت أي ظرف.

استدعاء هذه الشخصية الواقعية في درامياتها أكثر من الواقع نفسه، أو النزوح إليها، لم يعد يدخل إلى العقل الجمعي الفلسطيني من باب الحنين والوقوف على الأطلال، بل أصبح ضرورة تفرش نفسها على موائدهم، وفي صالوناتهم، قبل العبور إلى وجدانهم وضمائرهم.

هي الوجهة الوحيدة المتبقية ربما، عندما تلتبس مقولة حق العودة، وتتعثر على لسان من يفترض أنهم هم الناطقون الرسميون والشرعيون باسم أمهات فلسطين وبناتها وأبنائها، الذين وجدوا أنفسهم، في لجة مفاوضات عبثية مع الاحتلال، محرومين من صوتهم.

خرج الفلسطيني من بيته ودياره وحقوله وأزقة مدنه، دخل الخيمة الأولى، جاءت أم سعد لتعلن خروجه من خيمة البؤس، ودخوله الأسطوري إلى خيمة البندقية والمقاومة، إلى أن جاء من يحاول إعادته إلى الخيمة الأولى، ويكرس هويته هناك، ويعطي للخيمة عنواناً دائماً، ووثيقة سفر دائمة، وتذكرة سفر باتجاه واحد بلا رجعة، وتدفعه للوقوف أمام حائط مسدود، منزوعاً من حق الحلم والأمل قبل حق العودة.

من قال إن أم سعد لا تريد "إغراق إسرائيل باللاجئين الفلسطينيين"؟ ومن قال إنها لا تريد العودة إلى ديارها في صفد ويافا وحيفا؟ ومن قال إنها ليست تواقة إلى أن يترعرع أحفادها بين حقول الكرمل والجليل؟ ومن قال إنها تخلت عن عادة جمع البرتقال في بيارات يافا؟

ومن قال إن حق العودة إلى الديار، الذي كفلته أعلى سلطة في العالم ممثلة بالأمم المتحدة، جمعي الطابع؟ ومن ينسى أن هذا الحق فردي أولا؟ ومن لا يذكر أنه عندما صدر القرار الأممي 194، لم تكن منظمة التحرير الفلسطينية موجودة أصلاً، ولا السلطة الفلسطينية طبعاً، ولا حتى الفصائل الفلسطينية، فبأي وجه حق تأتي هذه التكوينات الجمعية أو بعضها، وتتنازل من جانبها، وبمحض إرادتها عن حق لا تملكه؟!

وهل لا يزال مقبولاً أن تدعي السلطة الفلسطينية تمثيل مصالح اللاجئين الفلسطينيين، وتتحدث باسمهم، وهم لم يمنحوها هذا الحق في التمثيل، ليس لأنهم لا يريدون، ولكن لأن التجربة السياسية الفلسطينية في ظل المفاوضات العبثية والتسوية الواهية مع دولة الاحتلال، قد أفرغت كل مؤسسات المجتمع الفلسطيني من محتواها، وقبلت على نفسها أن تتخلى عن دورها الوطني الجامع، مكتفية بتمثيل مكونات من الشعب الفلسطيني، وليس الشعب الفلسطيني كله.

حتى خلال الأيام الصعبة، كان الصوت الفلسطيني أشمل، وكانت تجري انتخابات، وتستطلع آراء عبر مؤسسات المجتمع المدني، فلماذا تغيب الآن، مع أنها هي الوحيدة القادرة على خلق مركز ثقل، وورقة ضاغطة حتى بالمعنى البراغماتي!

Email