جدليات العقل السياسي العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

كلما ازدادت ضبابية مشهد ما، واستعصت الأسئلة في مهدها على إجابات شافية، ازدادت الحاجة إلى طرح الجدليات البسيطة، على قلة تنوع ألوانها وانحسارها أحياناً إلى اللونين الأبيض والأسود، منشأ ما تبقى من ألوان.

إحدى أهم تلك الجدليات التي تظهر ضرورة مناقشتها في مشهد النظام السياسي العربي، بتنوعاته المختلفة عقب الربيع العربي، تتمحور حول تداخل المنظومة الاجتماعية والنظام السياسي، وأيهما يسبق الآخر من حيث الأهمية ودرجة التأثير في الأحداث ومسار تطور أو انكفاء محاولات التغيير والارتقاء الاجتماعي السياسي.

فرغم أن العالم أضحى قرية صغيرة ورغم سهولة وصول المعلومة، فإن هذه الطفرة التقنية تنطوي على تراجع ملموس في القدرة على قراءة الأحداث والمستجدات، وبالتالي على الاستفادة من تجارب إنسانية سباقة أخرى.

تراجع القدرة على قراءة من هذا النوع، يبدأ في التركيز على تصعيد منحى قراءة المشهد السياسي ما بعد الربيع العربي، في اتجاه وحيد عنوانه الشأن السياسي، علماً أن السياسة لا تشكل سوى نوع واحد من الخمائر التي أنضجت العقل العربي، وجعلته يضع على رأس أولوياته ضرورة إحداث تغيير في منظومات الحكم في غير بلد عربي.

وهذا التركيز عالي الوتيرة وبشكل أحادي الاتجاه، أعمى إلى حد كبير بعض أصحاب هذا العقل عن إمكانية قراءة أعمق وأشمل وأجدى لهذا المشهد الدامي في غير موضع ومكان.. قراءة تذهب إلى إعادة موضعة الهرم الاجتماعي، بحيث تكون قاعدته حيث يجب أن تكون في مسطحه السفلي، لا أن يكون مقلوباً واقفاً على رأس قمته. المنطق يقول إن مجموع القضايا المدنية التي تعكس مصالح الناس والمجتمعات، والتي أنجبت ضرورة التغيير الاجتماعي السياسي، تشكل قاعدة ذلك الهرم وأساسه ومنطلق أي توجه على هذا الصعيد، وليس العكس. لكن الواقع يشي بأن ثمة إصراراً على إبقاء الهرم الاجتماعي مقلوباً، بحيث يبدأ كل شيء في السياسة وينتهي بها، بعيداً عن تطلعات القاعدة العريضة من الناس.

مؤتمر جنيف الثاني الخاص بالشأن السوري، يصلح نموذجاً ساطعاً لجدلية المنظومة الاجتماعية والنظام السياسي، والتي يعلي طرفا الصراع فيها من شأن العنصر الثاني من المعادلة على الأول، من خلال إعطاء الأولوية للعناوين العريضة، مثل تشكيل هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة من جهة، ومكافحة ما يسمى بالإرهاب من الجهة الأخرى، بينما تتوارى عن المشهد كله مفاصل المنظومة الاجتماعية والحياة المدنية وقوانينهما الناظمة، التي تفترض وضع ملف جرائم الحرب والجرائم الإنسانية في صدارة المفاوضات، حتى يأخذ قانون العدالة الانتقالية مجراه، وحتى يفهم الجميع أن تسيد مفاهيم مرضية قائمة على شريعة الغاب والإفلات من العقاب، هو أساس الصراع والبلاء، بحيث تتحول العناوين السياسية الكبرى إلى مفردات مدنية تخص الفرد، والفرد أولاً وأخيراً.

Email