في مفهوم العودة

ت + ت - الحجم الطبيعي

ربما لم تشهد أوساط النخبة الثقافية والسياسية في عالمنا العربي خلطاً في الاستخدامات اللغوية للمصطلحات، مثلما تشهده في هذه المرحلة المصيرية من عمر الشعوب العربية، التي تمكنت من كسر حاجز الخوف، وعلا صوتها في مشهد استحقاقات التغيير الاجتماعي السياسي، وأصبحت ذلك الرقم الصعب العصي على التجاوز. لكن يبقى للنخب دور محوري في تحديد المسار واختيار الطريق في كل الأحوال، ومن هنا باتت أكثر من ضرورة ملحة لضبط عدد من المصطلحات والعبارات، التي تسمع بكثرة على غير صعيد، وفي مقدمتها عبارة "العودة إلى".

في قضايا التحرر الوطني الكبرى، تبرز وتتكرر عبارة "العودة إلى حدود ما قبل الرابع من يونيو 1967"، متناسين أن هذا الطرح "الشجاع" حتى لو رأى النور يوماً، وهو أمر مشكوك فيه أصلاً، كما تبين المستجدات السياسية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وما وصلت إليه المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية الماراثونية برعاية أميركية قوية، فإنه ينطوي بوضوح على التخلي عن فلسطين التاريخية، وبقاء ملايين الفلسطينيين هائمين على وجوههم بلا وطن أو جواز سفر في ما بات يعرف بالشتات الفلسطيني، بينما تحل محلهم ملايين أخرى من قطعان المستوطنين اليهود القادمين من جهات الدنيا الأربع إلى "أرض الميعاد".

في قضايا الحرية والكرامة والانعتاق من الاستبداد والمنظومة المفاهيمية المنبثقة عنها، تبرز عبارات من قبيل "إعادة الاستقرار"، و"العودة إلى حالة الأمن والأمان"، متناسين أن خلف هذا النوع من الاستخدامات اللغوية خلط كبير للمفاهيم ومغالطات فجة، تدحضها الوقائع المعاشة، خاصة عندما تستخدم في تجارب لا تزال غضة، والذاكرة الجمعية فيها لا تزال فاعلة، ولم تنس بعد واقع الحال، الذي كانت تعيشه الشعوب العربية المنادية بالتغيير، وبالمضي بمصائرها نحو الحاضر والمستقبل، لا العودة إلى ماض بائد لم تذق بين منعرجاته سوى طعم الخيبة والألم، وصنوف الظلم في أبشع صوره. العودة إلى ماذا؟ إلى منظومات الاستبداد، وغياب الحريات وهدر الكرامات، وسحق إنسانية الإنسان، والدوس على آماله وتطلعاته، وحشره في نفق الإبقاء على أنظمة متخلفة أكل عليها الدهر وشرب، وطوى التاريخ صفحتها مرة، وإلى الأبد!

وهل خلت جعبة النخب العربية المثقفة من القدرة على التحليل والاستنتاج، إلى درجة ارتفعت معها أصوات البعض مطالبة بهذه النوعية البائسة من "العودة إلى"، واضعة المواطن العربي أمام حائط مظلم مسدود، تختزله عبارة "إما الإرهاب وإما الاستبداد"، في الحالة السورية على سبيل المثال، في مشهد يشي بأن هذه "العودة إلى" لا تأتي في سياق الهرب من مغامرة الذهاب إلى المستقبل فحسب، وإنما من محاولة ملامسة الحاضر أيضاً.

هذا الاستخدام المبهم والملتبس للمصطلح، يحيل بالضرورة إلى توظيفه المعهود في حالة العودة المستحيلة إلى أول حبيب، وإلى ما اصطلح على تسميته بالزمن الجميل، جزافاً، وكأن المراد هو خسارة الأزمان الثلاثة مجتمعة.. الماضي والحاضر والمستقبل معاً.

باسل أبو حمدة

basisl@albayan.ae

Email