أفق شرقي

ت + ت - الحجم الطبيعي

أفق وحيد الخلية.. خلية عصية على التشظي والانشطار.. مولود أقرب إلى مسخ فقد هويته الجينية في زمن الولادات المشوهة، وهام على وجهه تحت جنح ليل دامس في ظلمات الأقبية وخلف الستائر والعمائر، وما عاد ينتمي لا لبني البشر ولا لأوابد الحجر.. لغة الإشارة وسيلته في التخاطب، بعد أن أمعن في استعداء لغة العبارة والإمارة.

وعاكس دلالات المفردة اللغوية ذاتها مزهواً بالعمى وبعدم القدرة على السمع.. متسلحاً بحماقات ومقولات قيمتها لا تساوي قيمة الحبر الذي سطرها به، وترجمها آهات تنطلق من حناجر ضحاياه مع كل لحظة تمر من عمره المديد داخل أسوار سجن كبير.

أفق يتلوى على درب حلزوني المدار حول الديار، في دائرة مفرغة خط البداية والنهاية فيها صنوان، وفي طريق العودة تتكشف بدايات بدائية جديدة، غير جديرة بمعادلة التراكم المعرفي والاستفادة من تجارب آخرين وقعوا في أشراك الفخاخ عينها..

صفحات تفتح وأخرى تمضي في سبيلها من دون أن تصفح عن جديد، في لا متناهية عبثية تفتقر للمعنى والجدوى وتنأى بنفسها، في كل مرة، عن معادلة الوجود الإنساني وماهيته لتبقى حبيسة وحل الغريزة الأولى.أفق تتداعى في مسالكه المغبرة شعوب وجيوش ورايات تدعي حضارات غريبة وأخرى تبدو قريبة، لا تبارحه قط تقضم كسرة منه أو جله أو تذوب فيه كي تدعي لنفسها لاحقاً أصل الصورة .

وجذر حكاية طالت فصولها، مشكلة جزءاً من رواية تتناقلها أجيال لا متناهية في ظل ثابت وحيد تبذل من أجله الضحايا رخيصة تبعاً لإرادة من استمرأوا العيش في أبراج عاجية لا تسمح جدرانها السميكة برؤية المحيط الهادر من حولها، بشخوصه ومقولاته ودواعي الرغبة في تغيير بات محتماً بوصفه استحقاقاً، حتى تتوقف مواسم الهجرة إلى الشمال وتمضي القافلة.

ويظهر الخير المتراكم عبر الأجيال، الذي أعلى من شأنه ليو تولستوي في "الحرب والسلام" وجعل منه شرط اكتمال دورة الحياة الحقيقية. أفق تتساءل في آخره طفلة الجيران عن معنى حروب ومعارك لم تشنها قط، .

ولم يخبرها ذووها عن اقتراب موعدها ولا عن زمن وقوعها، ولا عن حجم ما تخلفه من دمار وخراب.. تفتح عينيها صبيحة يوم هادر، وتتساءل عما ارتكبت من ذنوب حتى تحشر في حروب طاحنة لم تتسنّ لها فيها فرصة أخرى سوى أن تلعب بجدارة دور الضحية.

وأن تحاول الحفاظ على البراءة الأولى، وأن تجلي علامات استغراب بريئة حول حالة صمت تلف المكان، وتطوي معها عنصر الزمان الذي تكسرت عقاربه على عتبات إرادات تعفنت في قاع مرجل التاريخ، وتحولت إلى عصي تعيق حركة تقدم عجلته إلى الأمام.

أفق شرقي منغلق على نفسه وعلى جهات الدنيا الأربع، باستثناء شمال يسوق الداء والدواء في آن، ويفتح أو يغلق صنبور أحدهما بصرامة لا ترحم.

Email