أفق شامي

ت + ت - الحجم الطبيعي

أفق بلون واحد فقط.. لون الدم.. هو كل ما تبقى لأهل الشام، بعد أن تحلل لون الخطوط الحمراء وتحول إلى خطوط خضراء تمنح القاتل رخصة للقتل والإمعان فيه، في بيئة درامية تتخطى بحدتها ما تفتقت عنه حتى الواقعية السحرية في أدب أميركا اللاتينية ونموذجها الأبرز في "قصة موت معلن"، التي أبدعها الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، متمكنا فيها من إثارة سخط كل من قرأها، لا لشيء إلا لأن الجريمة كانت معلنة وحدثت على مرأى ومسمع الجميع، من دون أن يحرك أي منهم ساكنا.

أفق لا يخلو من اللون الرمادي أيضا، ودلالاته المعكوسة في لا مبالاة اللامبالين وصمت الصامتين وشماتة الشامتين وتآمر المتآمرين على دم الضحية، في مشهد تدوي فيه أصداء حادثة سقوط مقولة الأخلاق والمثاليات والأدبيات في مستنقع الرذيلة، وتعلو فيه ضحكات القاتل بعد أن اطمأن إلى ذوبان مقولة الإفلات من العقاب، في بحر سريان مفعول لغة الأنا وبعدي الطوفان.

أفق يرفع الغطاء فيه عن الضحية، وتترك كل ملامحها مكشوفة أمام قاتل يدثر بأغطية الدنيا في فجر دمشقي لا يملك من صفاته سوى شفقه الأحمر الدامي، حتى لو لم تخرج قطرة دم واحدة من أجساد أطفال كان يحدوهم الأمل في رؤية نهاية لأحلامهم الوردية الصغيرة، بعد أن برعمت أشجار المشمش وأزهرت وبلغت ثمارها كامل نضجها في آب، الذي ينتظره أهل الشام كل عام لرؤية هبة الله في جنة الأرض.

أفق يرسب فيه الإنسان في امتحان الأخلاق، ويشرع الطريق فيه لروح ضحية سمحت لنفسها بالتوقف قليلا قبل استكمال طريقها إلى السماء، والعودة للحظات إلى فيافي الغوطة الدمشقية بجناحيها الشرقي والغربي، وتلصق على أحد جدران بيوتها الطينية، على عجل، نعوة مستحقة للأخلاق باسمها وكنيتها الصريحين، بعد أن تعذرت إمكانية دفن الضحايا بأسمائهم وكنياتهم الصريحة، لا لشيء إلا لأن الكثير منهم فارقوا الحياة ولم تعرف هوياتهم.

 أفق أسود، أحمر، أخضر، أبيض.. ألوان لطالما كانت منبع زهو لعلم الشام وأهلها.. حداد يلفه الصمت.. دم مكبوت.. أخضر للقتل.. وأبيض يصبغ قلب الضحية قبل أن يقرر قاتل معلوم غمس سكينه السوداء فيه.

أفق يغيب فيه العقل والعقلانية والعقلانيون، وتحضر آلام تضاهي آلام سيدنا المسيح، يبحث أصحابها عبثا عن خلاص صار مجرد التفكير فيه ضربا من المحال، بعد أن تراكمت الضغائن والأحقاد وسادت الكراهية، وشمخت روح الثأر والانتقام في بيوتات الشام وغوطتها، وبعد أن تركت الضحية لمصيرها وأشاحت الإنسانية النظر عن دمها الراعش بين الحواري والأزقة والبيوت، وبعد أن حصن الجلاد نفسه برخصة دولية للقتل، وحصل على ضمانة تبقيه خارج دائرة العقاب، وتمده بكل ما يلزم لمراكمة مزيد من أعداد الضحايا، على مذبح حالة غير مسبوقة في التاريخ من التشبث الأعمى بسلطة عمياء، ومن الإنكار المريض لكل آخر يقول لا.. لا للطغاة.

Email