الغرب في الميزان

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما هو الغرب؟ هل هو خطاب أم جغرافيا؟ نموذج حياة أم مفهوم مجرد؟ في الحقيقة، الغرب هو هوية، وثقافة وحضارة، تميّز نفسها عن الثقافات أو الحضارات الأخرى، بمفاتيح اخترعها لنفسه وللبشرية، وهي : اختراع اليونانيين للمدينة والعلم والمدرسة. اختراع القانون الروماني، وما يتعلق بالملكية الشخصية والفردانية. الأخلاق اليهودية ــ المسيحية. الثورة البابوية في القرون الوسطى، بما فيها من مسؤولية وعقلانية. الليبرالية الفكرية والديمقراطية وحرية التعبير. وأخيراً اقتصاد السوق.

هذا هو جوهر الغرب الذي بشّر به العالم، ولكن المفاجأة أن ثمة تراجعاً حصل في هذه المنجزات المهمة، ولم يعد مخلصاً إلى مفاهيمه التي أسسها بنفسه، فذلك يشبه الشرخ في المرآة، لا يمكن إصلاحه، بل ويلقي بظلاله على مفاهيمه في التعامل مع الآخرين أو مع الآخر.

ولقد تجسّد هذا الشرخ في قضائه على تيارين إنسانيين، تراجع عنهما، وقبرّهما بيديه نتيجة جشعه، وهما: المسيحية والماركسية، فلم يعد الغرب لا مسيحياً ولا ماركسياً.

فقد وضعت ثورة الشباب في تونس ومصر وليبيا واليمن هذا الغرب في الميزان، هذا الغرب الذي لطالما مارس سياسته البراغماتية المتأرجحة من ثورات الشعب العربي، متنكراً لكل مفاهيمه السابقة، ولجأ إلى الصمت والانتظار لمن ترجح الكفة لكي يعطي رأيه.

أليس هو من كان يزود طرفي الحرب بالسلاح؟ أليس هو من أوجد إسرائيل؟أليس هو من دمّر العراق وأرجعه إلى الطائفية المقيتة؟

وبالأمس سقط الغرب في الامتحان عندما حقق الإسلاميون نجاحا في الانتخابات في كل من الجزائر وغزة وغيرهما، فأقدم على الجمع بين الإسلامي والإرهابي في سلة واحدة، ولطالما تذرّع الحكام المستبدون العرب بـ (شبح) الخطر الإسلامي، لكي يحصلوا على دعم الغرب وسلاحه، واستدامة حكمهم، واستخدام هذه الورقة لإخافته وإدخال الهلع إلى قلبه:

مصلحة وخديعة في حفلة ماجنة إلى أن هبّت رياح التغيير على العالم العربي، وتكشف عن أقنعتهم المزيفة. لقد قلبت ثورة الشباب العربي في كل من تونس ومصر وغيرهما كل مفاهيم الغرب وإستراتيجياته، بل وبعثرت كل مفاهيم مراكز دراساته الإستراتيجية، ذات القوالب الجاهزة، لأنه كان يرى العالم العربي من منظار الأبيض والأسود، كما لو أصيب بعمى الألوان، فاقداً تدرجاتها اللامتناهية. بالأمس، هللّ الغرب لسقوط جدار برلين ليس من أجل الحرية، وتوحيد الألمانيتين، بل من أجل إسقاط الشيوعية. فالغرب كان عقبة كأداء أمام الثورات العربية منذ مطلع هذا القرن، بل ما هو إلا امتداد لسياساته الاستعمارية، المغلفة بقناع الترويج الحضاري. فقد كان هذا الغرب ولايزال يسيء فهم الإسلام والعرب، أو يفهمهما على أسس الخوف والهستريا، (الاسلامفوبيا). فلم يكن هذا الغرب مخلصاً لا لأفكاره الفلسفية ولا لجماهيره، ولم يستمع إلى ملايين المعارضين للحرب على العراق ولم يستجب مطلقاً بل وضرب برأيهم عرض الحائط.

لم يبق الغرب مخلصاً لا لأخلاقه، ولا لمسؤوليته ولا لعقلانيته، ولا لعلمه، ولا لديمقراطيته ولا لحضارته أو ليبراليته، بل ظل مخلصاً لمبدأ واحد وهو اقتصاد السوق حيث تسبح الحيتان في بحيرة صغيرة من الأسماك؟

وهذا لا يعني أن الغرب يعتبر شراً مطلقاً، كما يجاهر بعض المتطرفين، وهو ليس واحداً أحادياً، بل يتميّز بالتعددية الفكرية، ولا يؤمن مفكروه وعلماؤه ومثقفوه بما يقوم به سياسيوه بالضرورة.

وربما مشكلتنا نحن العرب ليست مع مفكريه وعلمائه ومثقفيه، بل مع سياسييه الذين يوجهون دفة الربان كما تتطلب مصالحهم الأنانية. ومثلما عاش الغرب عام ‬1989 تفكك الاتحاد السوفييتي السابق وأوروبا الشرقية، فنحن نعيش عام ‬2011 والفرق هنا، نحن ابتهجنا بما حصل عندهم آنذاك وهم يحزنون لما يحصل عندنا الآن.

Email