اللغة العربية من سيبويه إلى العربيزي 3-1

ت + ت - الحجم الطبيعي

لغتنا العربية هي لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف واللسان المشترك، الذي يجمع أكثر من مليار مسلم على وجه الأرض، هي لغة التفكير العلمي والإبداع والابتكار الذي يحقق للأمة القوة والطاقة والإنجاز والاختراع والتقدم.

حين نكتب ونبحث ونُطلق البرامج والفعاليات التي تعزز من أصالة اللغة العربية، نواجه دائماً برد الفعل عند البعض ممن يقول: نحن أبناء قرن جديد، نعيش في العصر الرقمي، في عصر تهيمن عليه اللغة الإنجليزية، وأنتم تطلبون منا محاكاة لغة سيبويه، ونحن نحلم بالتطور والحداثة والتقدم والوصول إلى أعلى القمم في الحضارة.

دعوني هنا أشير إلى حقائق تاريخية لا يمكن إنكارها، لغة أي قوم هي تاريخهم ومجدهم وعزهم وثقافتهم، وهي العلم والمعرفة والحضارة والسبق والفوز والإبداع، ومما يكاد يجمع عليه علماء الاجتماع، أنّ اندثار اللغة هو اندثار الذات، وغياب الشخصية، وغروب حقيقة الهوية.

وأضيف إلى ذلك حقيقة أخرى قد تكون غائبة عن كثير منا، وهي أنّ كل دولة من دول العالم تبذل جهدها للحفاظ على اللغة الوطنية من أي تأثيرات ضارة، وتدافع عنها بشراسة في مواجهة تأثير اللغات الأخرى، لهذه المهمة، تحرص بقوة على تجنيد كل الوسائل المتاحة حتى لا تصاب لغتهم القومية بالضياع أو الضعف أو حتى الموت الذي لحق بعدد كبير من اللغات، حيث أعلنت اليونسكو أن هناك 3000 لغة مهددة بالانقراض حتى سنة 2050، بل هناك 2400 لغة منها ستنقرض بأسرع مما يظن، وأشهر شاهدة على انقراض لغة حية، هي ماري سميث جون، آخر متحدثة بلغة قبيلة إياك في آلاسكا، وكانت تقول: »إنه لمن المزعج أن تكون وحيداً تتكلم هذه اللغة« فهل تظنون أنّ لغةً عريقةً عظيمةً مثل اللغة العربية يمكن أن تنقرض يوماً ما؟.

عند ابن خلدون في ما أقره في مقدمته: إن قوة اللغة في أمة ما، تعني استمرارية هذه الأمة بأخذ دورها بين بقية الأمم، لأن غلبة اللغة بغلبة أهلها، ومنزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم، يقول ابن خلدون عن ذلك: »المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها«.

نعم إنّ المغلوب الذليل هو الذي يريد أن يقلد عادات ولغة من غلبه، أما الدول الغالبة، فهي باقية في مجدها لا تحتاج إلى تقليد أحد. أليس هذا ما نراه اليوم، وحذَّر منه أهل الرأي والعلم منذ زمن بعيد، حتى قال الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي (ت:1937):

»وإننا لنرى عجباً من بعض من استهوتهم الحضارة الغربية، فهم مستغربون في اتجاههم وحبهم وعاداتهم، فتجد أحدهم إذا تكلم بالعربية، فإنه يتكلم بلغة تلعنها العربية، ورأيته يتكلف نسيان بعض الجمل العربية ليلوي لسانه بغيرها، لا تظرفاً ولا تملحاً ولا إظهاراً لقدرة أو علم، ولكن استجابة للشعور الأجنبي الخفي المتمكن في نفسه، أتدري ما هو سر هؤلاء الكبراء الذين يطمطمون إذا تكلموا فيما بينهم؟ إنهم طبقات: وذكر منهم من يتكلفون هذا، لما في نفوسهم من طباع أحدثها الخضوع والذل للغرب. فاللغة الأجنبية بينهم تشريف وفخر.

هذا التأثير اللُّغوي هو الذي دفع المسلمين قديماً نحو ترجمة العلوم الأجنبية إلى اللغة العربية، فكانت العربية هي لغة المنهج ولسان التعامل بين أبناء المجتمع، ولكن لم يكونوا أذلة في ترجمتهم، ولا أظهروا الخنوع، بل ترجموا العلوم إلى العربية، وزادوا عليها كثيراً من العلم، حتى أصبحت هذه الترجمات لا قيمة لها، ولا تقارن مع الكم العلمي الكبير الذي اكتشفه علماؤنا الأوائل.

أما نحن اليوم، فنعيش عصر العربيزية، التي يدعي الجيل الجديد أنها لغة العصر، تستخدم في رسالة إلكترونية أو رسالة في الهواتف، وفي كتابة المحادثات عبر شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. لغة هجينة بين اللغة العربية وحروف لاتينية. انحسرت العربية من حياتنا اليومية، وفي المناهج الدراسية في كل حقل وميدان. أليس هذا هو بداية ضياع الهوية؟. للمقال بقية..

Email