محمد العَريفي هل أنصف الحجّاج الثقفي؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

المتتبع لقصص العرب المحفوظة في جاهليّتها، ثمّ في إسلامها يجدها تعتمد على أمرين مهمين هما: الغرابة والطرافة، وهذان الأمران يجعلان القصّة المحكية قريبةً من آذان السامعين، ومحببةً إلى قلوب السامرين، ومن المعلوم ضرورةً أنّ الناس تولع بالغرائب وتنفر من المألوف وكما قيل:

للنَّفسِ في الحكمِ الغريبِ تعلّقٌ

وسآمةُ المألوفِ منْ عاداتها

وهذا هو سرُّ تنافس الرواة قديماً على الروايات العجيبة، وبعضهم ينثر على الخبر الصحيح بعضاً من (البهارات) من وحي خياله، وقد ينسجون قصصاً خياليةً كاملةً لأعلامٍ حقيقيين، إما من أجل مدحهم كما فعلوا مع قصص عنترة بن شدّاد أو من أجل الحطِّ من شأنهم كما فعلوا مع الحجّاج بن يوسف الثقفي والخليفة هارون الرشيد، وغيرهما أو من أجل إمتاع السُمّار فيخلطون الحق بالباطل بقصدٍ أم بدون قصد.

استمعتُ منذ فترةٍ إلى الشيخ محمد العَريفي الجبري في إحدى القنوات، وهو يحدّث الشباب بالقصة المشهورة عن الحجّاج وزوجته هند بنت المهلّب بن أبي صُفرة وهو وإنْ قدّم روايته بقوله "قالوا" فقد كان يجب عليه التحرّي عن هذه القصة وصحتها، لأنّ فيها ما لا يصحُّ نقله عن عبدالملك والحجاج وهند وسوف أبيّن باختصارٍ الحقيقة بإذن الله .

أولا: صياغة القصة

يروي الرواة هذه القصة بما أنقله هنا مختصراً : يحكى أنّ "هنداً" كانت أحسن نساء زمانها فوُصف للحجاج حسنها فخطبها وبذل لها مالاً جزيلاً وتزوج بها وشرط لها عليه بعد الصداق مائتي ألف درهم ودخل بها، وفي يومٍ سمعها وهي تنشد:

وما هنـدُ إلا مهـرةٌ عربيةٌ

سليلةُ أفراسٍ تحللـها بـغلُ

فإنْ ولدتْ فحلاً فللهِ درُّها

وإنْ ولدتْ بغلاً فجاء به البغلُ

فغضب الحجاج وطلقها ثم تقدم للزواج منها الخليفة عبدالملك فوافقت بشرط أن يقود محملها الحجاج حافيا إلى دمشق، وهكذا وصلت هند إلى الخليفة وتزوجها.

ثانيا: نقد القصة

لا أشكُّ في أنّ هذه القصة من كذب أعداء الحجاج عليه، لإظهاره بمظهر الذلة والصغار ولكنها مع ذلك لاقت رواجاً عبر العصور إلى اليوم وهي من اختراعات السامرين بحبكة الكذابين، وقد اختلف الرواة في شخصية "هند" هذه فمنهم من قال: إنها هند بنت النعمان من ذرية الملوك المناذرة وهذا لا يصحُّ، لأنّ هند توفيت نحو 74هـ وقد بلغت من العمر عتياً ولم تدخل الإسلام والحجاج لم يولد إلا في 41هـ فكيف يصح زواجه منها ثم زواج عبدالملك منها بعد ذلك؟

والصواب: أنّ الحجاج تزوج من هند بنت المهلب بن أبي صفرة الأزدية وتزوج أيضا هند بنت أسماء بن خارجة وقد طلقهما كما سأذكره، ولكنه لم يثبت أنّ الخليفة عبدالملك تزوج بإحدى الهندين، وقد روى أهل الأشعار مدْحَ أسماء بن خارجة لصهره الحجاج بقصيدة يقول فيها :

فزّوجتها الحجّاج لا مُتكارهاً

ولا راغباً عنه ونعْمَ أخو الصهْرِ

وهذا مدحٌ للحجاج الثقفي من والد زوجته فكيف تسميه زوجته بغلاً ؟! وإذا نفينا أن تكون هند بنت النعمان أو هند بنت أسماء صاحبة القصة الآنفة الذكر، فلم تبق إلا هند بنت المهلب بن أبي صفرة، وقد ثبت زواجه منها وطلاقه أيضا وجاء في قصة طلاقه لها: أنها ناحت وصاحت لما نكّل الحجاج بأخيها يزيد وسجنه، فلم يحتمل هذا منها فطلقها ولم يرد أبداً أنّ عبدالملك تزوج منها بعد طلاقها وكذلك لم يكن بينها والحجاج فوارق في النسب والحسب، بل كان الحجاج من كبار ولاة الخلفاء الأمويين وله نسب معروف في ثقيف.

الخلاصة

الروايات الأدبية كثيرةٌ فمنها الصحيح ومنها الباطل ولا بأس برواية القصص التي ليس فيها جرحٌ لأحدٍ أو تحقيرٌ، إلا إذا صحت الرواية فإنك عندئذٍ ترويها بهدف التعليم وإحقاق الحق، ويجب علينا وعلى الدعاة أن لا يتلقفوا الروايات ويقومون بروايتها من غير تحقيق كما فعل الشيخ العَريفي حفظه وحفظكم الله.

Email