نبدأ سنوات عمرنا الأولى ولكل شيء من حولنا هالة تستحق الدهشة، الأصوات الغريبة وملمس الأشياء وأسماؤها، فما زلت أذكر حينما أصبت بدهشة قوية دفعتني لأتغيب عن إحدى الحصص في المرحلة الابتدائية، لأقف في مختبر العلوم محاولة إدراك معلومة جديدة درسناها عن الفضاء، واستكملت هذا الانفصام التام وأنا أجلس فوق سطح المنزل مساء لأرقب النجوم، لتتسع مخيلتي وأندهش أنني جُرم صغير وسط عالم كبير جداً.. جسد هش.. وسط قارات مملوءة بالبشر.. من أنا..؟ وهل سأدنو بإدراكي لأفهم وأرى.. وأتقد..؟!
في طفولتي، كانت الدهشة ترافقني كلما اتسعت مداركي بمعلومة جديدة، ولا أنسى كيف تخيلت شكل الأرض وهي تحترق كديك رومي في حفلة شواء بدائية، حينما درست الاحتباس الحراري واتساع ثقب الأوزون، وأنا أراقب صديقاتي من حولي يجمعن أقلامهن وكتبهن غير مندهشات أننا نعيش على المِحك، أننا مهملات نسيء لأمنا الأرض، أننا نتسكع في هذا الكون غير مباليات، دهشة أسست نمط تفكيري، ولكنها كانت تتلاشى كنجمة لامعة رصدتها ذات يوم في السماء.. واختفت، فأين غابت دهشتنا؟.. وهل نضجت خلايانا الرمادية وصارت مستعدة للتحليل المُمنطق والتساؤل المُمنهج الذي يمنح الأشياء قيمتها؟
من دون مغالاة في التنقيب عن كل تلك التساؤلات، أصبحت الدهشة إرثاً تاريخياً قديماً طوته التكنولوجيات المتناسلة بجنون كل يوم، وقد أُتَهمُ بالهرطقة بمجرد التفكير في نفض التراب عن هذا الشعور الملموس، الذي تتسع به أعيُننا، وتتغير ملامحنا لتصف كل ذلك الذهول الذي يشتعل في دواخلنا، تلك التفاحة التي سقطت يوماً وغيرت قوانين الفيزياء.. تلك البارقة التي نسجت خطوط الفلسفة الأولى..!
ولم أعد أندهش أن هذا التلاشي طال اليوم علاقاتنا الاجتماعية، فأصبحنا غير مبالين بانسلاخها، غير مندهشين من ذواتنا، بعد أن بات عدم الاكتراث أداة للبقاء، أصبح الأمر برمته رتماً حديثاً، ونمطاً جديداً للتكيف.. لأتساءل.. هل سنتلاشى بتلاشي دهشتنا..؟!