يبدو أن ذلك الكائن المستعمر ذواتنا سيظل يشغلنا ويحجب النور عن أفقنا المكبل بألف «لو»، فالتسويف وأدواته التي تنخر في هيكل اللاجدوى، والذي ينهار رويداً رويداً، بات مشهداً مألوفاً في فصل ضياع الفرص، والانتظار على أطلال اللاشيء، فهل بات روتيناً جديداً في حياتنا، أم جزءاً من تكويننا البشري؟
بالواقع، لم أكن أتصور أن ثمة «موتاً كلاسيكياً»، وهو يختلف بشكل جذري عن مفهومنا المعروف، فمراسمه تبدأ بزوال الشغف والرغبة، والوثوب نحو مفازات أخرى، يبعث من رفات التسويف ليستوطن إرادتنا في التغيير أو الإنجاز أو تحقيق منفعة أو حلم، كسهم ضلّ طريقه بعدما انفلت من القوس لتجنيه الأجساد الوهنة المتكاسلة، كوباء يطفئ الحماس، ليحل شعور من الريبة والخوف والتردد، حتى تنسى لماذا وكيف ومتى قررت أن تؤجل.
وربما أن الحاجة إلى توفير مساحة من الاطمئنان ومراجعة الأفكار والأهداف تجعل التأجيل أسلوباً تخطيطاً مهماً للتريث قليلاً، لتصويب خطأ قبل تنفيذ أي فكرة، أو البحث العميق لإنجاح مشروع مبتكر، دون هدر وتسويف ضمن جدول زمني مدروس وواضح، يبدأ بعدها التنفيذ مباشرة، كي تتنفس تلك الأفكار على أرض الواقع.
ولا ينحصر التسويف في تحقيق حلم أو إنجاز، بل أرى بأن التسويف تعدى ذلك ليتصدر حياتنا الاجتماعية، كالتسويف في تقديم دعم ومحبة، التسويف في الاعتذار عن خطأ، التسويف في كتابة رسالة قصيرة بإمكانها أن تمحو قطيعة، وتعيد للطرف الآخر اعتباره، التسويف في قبلة رضا على جبين أب وأم، التسويف في كرم أخلاق وبذل لمحتاج، التسويف في زيارة قصيرة لقريب، التسويف في تلبية دعوة فرح، والتسويف في تقديم واجب عزاء، تأجيل يتلوه تأجيل، لنتساءل: هل بقيت علاقتنا الاجتماعية كما كانت.. أم أنها باتت غريبة مختلفة؟
فالتساؤل مطلب مهم، كي لا نقع محبطين في أوحال «لو» ونحن نعبر صراط التسويف.