البحر يلفظ كل ميت

العيش قدر لكن الحياة اختيار، فالعمر بيد الواحد القهار الذي سيرنا في أمور وخيّرنا في أخرى. كم من أناس يعيشون تحت التراب لكنهم أحياء بذكرهم، وبما خلدته أفعالهم وأقوالهم.

بالمقابل هناك من يعيش بيننا جسداً بلا روح وكأنه مجرد رقم على لائحة تعداد السكان لا ينفع ولا يضر، لا يُحزن ولا يسر، كأي شخصية هامشية في رواية باهتة لا يقدم فيها ولا يستأخر. تصنع منهم الأحداث شيئاً لكنهم لا يصنعونها. هؤلاء هم أنت وأنا في كثير من الأحيان دون أن ندرك.

أنا عندما تجتمع العائلة لأمر هام وأبقى حبيساً لهاتف سرقني ممن هم أحوج لي، وأنت عندما تبتسم سارحاً بخيالك لزميل يخبرك بمصيبته التي أهلكت قلبه، وذاك عندما يندمج في أرجل تتقاذف كرة متجاهلاً طفله الذي تتقاذفه الألسن تنمراً، وتلك عندما تشتكي لها والدتها ألماً في أسفل خاصرتها وهي تحدق بخاصرة ممثلتها المحبوبة.

كلنا نمر بلحظات موت في أوقات يحتاج من حولنا منا حياة نبث من خلالها فيهم أملاً يطبطب على ظهور همومهم المثقلة باليأس وعملاً يحتوي عثرات عجزهم. أكثر ما يميتنا هو التفكير بما فات أو بما هو آت دون الاكتراث لما نمر به الآن. أغمض عينيك، تنفس بعمق مستشعراً نبضاتك وصوت زفيرك وشهيقك، افتح عينيك، انظر حولك. في كثير من الأحيان كل ما نحتاجه أن نحيا الحاضر متوقفين عن الهروب لحفر الماضي أو دهاليز المستقبل.

في رحلة من رحلات الصيف، تأملت البحر وأعني بذلك البحر لا الغروب ولا السماء. فكم من متأمل يشتت ناظريه فلا يرى ما لا يحدث ولا يسمع ما لا يقال. رأيت البحر يدفع بأمواجه قواقع خاوية وطحالب ميتة، وكأنه يهمس في أذنيّ «حتى البحر يلفظ كل ميت، فلا تمت عزائمك يلفظك كل حي».