أولمبياد باريس والكيل بمكيالين

ت + ت - الحجم الطبيعي

عاد الجدل بقوّة حول مشاركة الرياضيين الروس والبيلاروس في الألعاب الأولمبية القادمة والتي تقام في العاصمة الفرنسية باريس في الفترة ما بين 26 يوليو إلى 11 أغسطس 2024، غير أنّ اللجنة الأولمبية الدولية أنهت الترقّب بمنحها الضوء الأخضر للرياضيين الروس والبيلاروسيين للمشاركة تحت علم محايد في الألعاب الأولمبية الصيفية المقررة في باريس وبشروط صارمة وصفتها روسيا بـ«التمييزية».

وفي المقابل، منعت اللجنة الأولمبية الدولية الثلاثاء الماضي رياضيي روسيا وبيلاروسيا من المشاركة في مراسم استعراض البعثات خلال حفل افتتاح أولمبياد باريس 2024.

وعمدت اللجنة الأولمبية عبر تاريخها الممتدّ منذ أكثر من 124 سنة إلى منع أو تضييق الخناق على الرياضيين بسبب مواقف أو سلوكيات سياسية أو غيرها لدولهم، وغالباً ما مارس هذا المنع وطالب به دول من الغرب الليبرالي ضدّ قوى ودول تختلف معها أو تنافسها أو هي تخضع لنظام سياسي واقتصادي قد لا يروق لها.

وفي باب المقاطعة، ومنذ ظهورها في شكلها الحديث سنة 1896، مثّلت الألعاب الأولمبية أداة ضغط واحتجاج لجأت إليها العديد من الدول للتعبير عن رفضها واحتجاجها على قرارات سياسية اتخذتها الدول المستهدفة أو تنديداً بأحداث ذات طابع سياسي وعدواني كالحروب وسياسة الميز العنصري، وعمدت بالتالي إلى مقاطعة هذه الألعاب ومنعت رياضييها من المشاركة في هذا الاستحقاق الرياضي الأهمّ على المستوى العالمي.

وإذا كان من المطلوب استغلال هذه المناسبات الرياضية الكبرى لإشاعة قيم الأمن والسلام، فإنّ مصدر القرارات التي تجسّد هذا التوجّه الإنساني يجب أن لا يخرج، أوّلاً، عن دائرة الهيئة الدولية الأولمبية تكريساً لاستقلاليتها، وأن تكون هذه القرارات بعيدة عن أيّ استغلال أو توظيف سياسي، وثانياً، يجب أن لا يؤدّي السلوك إلى إهانة الرياضيين بشكل يراكم الضغائن داخلهم وتكون نتائج ذلك عكسية وفي غير الأهداف التي يُراد الوصول إليها، وثالثاً، يجب القطع في هذا التمشّي مع سياسة اختلاف المكاييل، لأنّ ذلك ينزع المصداقية على هذه السياسات الذي يُراد لغاياتها أن تكون نبيلة ويجعل منها خاضعة فقط لموازين القوى الدولية، بما يناقض في العمق القيم والمُثُل الأولمبية.

وقال المتحدث باسم الكرملين للصحفيين ديمتري بيسكوف إنّ سلوك اللجنة الأولمبية تجاه روسيا ورياضييها «ينسف بالطبع فكرة الأولمبياد برمّتها، وينتهك مصالح الرياضيين، وهو ما يتعارض تماماً مع أيديولوجية الحركة الأولمبية بأكملها، ولا يرسم صورة جيدة للجنة الأولمبية الدولية».

وبقطع النظر عن مواقفنا من الأزمة بين روسيا وأوكرانيا بخصوص النزاع الحدودي بينهما، فإنّ ما يجري في هذه المنطقة يعتبر نسخة مكرّرة لما جرى ويجري في مناطق أخرى من العالم بمساهمة مباشرة من بعض الدول التي تنتقد الآن السياسات الروسية، ولا نعلم أنّ اللجنة الأولمبية اتّخذت إجراءات مماثلة ضدّ الرياضيين في هذه الدول ذات التاريخ الاستعماري البغيض.

ولعلّ أكثر الأمثلة إثارة للاشمئزاز هو سلوك اللجنة الأولمبية تجاه دولة إسرائيل الاستيطانية التي تمارس الآن أبشع أشكال الإبادة العرقية ضدّ الشعب الفلسطيني الذي لا يريد غير نيل حقوقه المشروعة والتي أقرّتها المواثيق الدولية.

اللجنة الأولمبية، كما الدول التي تدفعها دفعاً إلى اتخاذ مواقف سياسية ضدّ بعض الدول الأخرى، تجاهلوا بالكامل 76 سنة من الاحتلال والعدوان المتكرر على شعب وأرض فلسطين، وقد يكون التبرير أقبح من الذنب أحياناً.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون برّر الاثنين قبل الماضي الفارق في التعامل مع إسرائيل وروسيا، معتبراً أنّ الأولى لم تكن «المهاجِمة» في حين أنّ الثانية هي من قررت شنّ «حرب عدوانية» على جارتها أوكرانيا، ناسفاً بذلك تاريخ 75 سنة من الاحتلال الإسرائيلي والعدوان الوحشي ضدّ الفلسطينيين، وضارباً عرض الحائط بترسانة قرارات الشرعية الدولية التي أسّست للحقّ الفلسطيني المسلوب.

إنّ فرنسا شأنها شأن العديد من الدول الغربية، لا ترى إلّا بعين واحدة، وهو ما جعل من سياستها في هذا المجال، سياسة عرجاء وعقيمة، وقد عاينّا أنّ الأمر لا يتعلّق فقط بتنظيم الألعاب الأولمبية، ولكنّ المواقف شملت أيضاً الاحتفال بذكرى الانتصار على النازية، فرنسا قرّرت استدعاء روسيا واستثناء رئيسها وهذا تجسيد واضح لمعنى العبثية في السياسات وفي العلاقات بين الدول.

Email