شخصيات تحت المجهر

محمد عواض الثبيتي.. عراف الرمل وسيد البيد وشاعر عكاظ

ت + ت - الحجم الطبيعي

في منتصف خمسينيات القرن العشرين، نشأ ما يعرف بمدرسة الحداثة في الشعر العربي المعاصر (مدرسة الشعر الحر)، بتأثير مما حدث في الغرب.

وقتها بدا واضحاً ظهور وعي جديد بأهمية التطور والتجديد في فهم الشعر، كان من آياته التمرد على نموذج الشعر العمودي والقافية الواحدة والإيقاع الواحد، واستخدام بنية لغوية جديدة، تعتمد البساطة، وتحمل قدراً من الغموض والرمزية، وذلك بدعوى أن الشعر العربي الكلاسيكي العربي لم يعد يناسب لغة العصر.

كانت بداية هذا التوجه مع الشاعرة العراقية «نازك الملائكة»، التي كتبت أول قصيدة حرة بعنوان «الكوليرا» سنة 1947.

وسرعان ما ظهر للشعر الحر مؤيدون ورموز يدافعون عنه في مختلف الأقطار العربية، من أمثال بدر شاكر السياب ومحمود درويش وأدونيس ويوسف الخال.

في الوقت نفسه، ظهر من يقاوم ويرفض الشعر الحر، واصفاً إياه بالتوجه التخريبي للدين والحق والفضيلة، متمسكاً بالنهج الكلاسيكي المتوارث، ليحتدم الصراع بين الفريقين ويتمدد، محدثاً حراكاً أدبياً غير مسبوق، ومعيداً توهج الشعر العربي الذي كان قد بدأ في التلاشي.

في السعودية، بدأ تيار الحداثة في الأدب والشعر بالتشكل منذ ثمانينيات القرن العشرين، وظهر له رموز وأنصار، كان من أبرزهم صوتاً وأعذبهم شعراً وأكثرهم إثارة للجدل، الشاعر «محمد الثبيتي»، المكنى بـ «أبويوسف»، والملقب بـ «سيد البيد»، والذي سنتناول هنا سيرته بالتفصيل، باعتباره واحداً من القامات الشعرية السعودية التي أحدثت تحولاً جذرياً في تاريخ الشعر السعودي الحديث، بل باعتباره ظاهرة حداثية متميزة في خارطة الشعر العربي، صنعت صخباً وضجيجاً، ووُجهت بالكثير من التحديات والمتاعب وصور التهميش والمطاردة، في زمن هيمنة الصحويين والمتشددين على الساحة الفكرية، على الرغم من أن حداثية الثبيتي لم تكن خروجاً على بنية الشعر التقليدي وقوافيه، أو تحطيماً لقواعد اللغة العربية. فجل ما قام به ودعا إليه هو ضرورة تجديد الشعر العربي لجهة الفكرة والمفردة والتعبير.

ورغم هذا تصدى له رموز الصحوة، وقلبوا حياته جحيماً، بدليل الكتاب الذي أصدره أحدهم، وهو عوض القرني في عام 1988، تحت عنوان «الحداثة في ميزان الإسلام».

ففي هذا الكتاب، الذي تناول فيه القرني بالهجوم والتجريح عدداً من شعراء وأدباء الحداثة، قدم تقريضاً للثبيتي، بل اعتبر ما قاله في قصيدة «تغريبة القوافل والمطر»، من ذكر لــ «كاهن الحي»، إنما هو من الشرك بالله.

لم يكتفِ خصومه بذلك فقط، وإنما حالوا دون نشر وتوزيع قصائده ودواوينه الشعرية، ورفعوا أصواتهم ضده على منابر الجوامع، وجعلوا منه موضوعاً ساخناً للأعمدة الصحافية، ومنعوا حصوله على الجوائز الأدبية، بدليل ما حدث في أمسية تكريمه وتسليمه جائزة الإبداع عن ديوانه الثالث (التضاريس)، في النادي الأدبي الثقافي بجدة، حيث تم إلغاء حفل تكريمه، بوعيد وضغوط مارسها الصحويون، واستبدلت محاضرة حول الديوان المذكور كان مقرراً أن يلقيها الأكاديمي المصري القادم من جامعة عين شمس د. مصطفى ناصف، بمحاضرة حول الشعر الجاهلي، فيما اضطر الثبيتي للهرب من الباب الخلفي، تحاشياً للفتك به على يد مجموعة كبيرة من المتشددين الذين حضروا المناسبة.

وهكذا واصل خصومه حملاتهم على شاعرنا، ومارسوا الوشاية ضده كلما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، بينما هو صامد وشامخ، لا يكترث لأصوات الإقصاء والإلغاء، كما ردد في قصيدته «موقف الرمال»، حينما قال: «يا أيها النخل.. يغتابك الشجر الهزيل.. ويذمك الوتد الذليل.. وتظل تسمو في فضاء الله.. ذا طلع خرافي.. وذا صبر جميل».

في أواخر الثمانينيات، استدعي الثبيتي للتحقيق بسبب قصائده. وحول هذه الواقعة قال في حواره مع صحيفة الحياة (١/4/٢٠١٠): «فوجئت باستدعاء من جهة معينة، وحضرت عندها مراراً، محاولين إرغامي على تفسير شعري بعد تأويله من جهتهم، مؤملين الخروج بإدانة، فلم أزد في ردي على أنني مسلم وشاعر، كبقية الشعراء العرب على مر العصور.

إلا أن المفاجأة كانت في تحويلي إلى المحكمة، وكم أكبرت القاضي حين رفض نظر القضية، لأنها ليست من اختصاصه، وأعفاني من المثول بين يديه، ليحاول أحد أعضاء تلك الجهة الحصول على شرح موجز مني، يتضمن إعلان مقصدي ونواياي، من خلال بعض نصوص (التضاريس)، ولم أنجُ منهم إلا بعد تلقيهم توجيهاً من أحد الفضلاء».

ولد «محمد بن عواض بن منيع الله الثبيتي العتيبي» ونشأ وأتم دراسته الابتدائية في محافظة بني سعد، جنوبي الطائف، سنة 1952، في ظل أسرة متوسطة الحال، وفي أحضان بيئة صحراوية، وبين أب وجد كانا يقرضان الشعر ويعشقان القراءة، ويمتلكان مكتبة منزلية زاخرة بالكتب.

وقبل إكماله مرحلة الدراسة الابتدائية، كان قد أنهى قراءة كل محتويات تلك المكتبة، وحضر جلسات مجلس والده، واستمع لكل ما دار فيها من مسامرات ومحاورات شعرية وأدبية، الأمر الذي ساهم مبكراً في تعلقه بالشعر والأدب والمعارف.

لاحظ عليه والده نبوغه ونهمه المعرفي، فقرر في عام 1966 أن يرسله إلى جدته وعمه في مكة، كي يظفر هناك بتعليم أفضل.

ولهذا يمكن القول إن الثبيتي لم يعِش طفولته كغيره من الأطفال، لأنها كانت مثقلة بالأحلام، والكثير من التساؤلات التي استدعتها تحديقاته في السماء والنجوم وفي الصحراء، وما يحيط بها من أشجار ورمال ومياه وأسمال.

وهكذا قدر للطفل البدوي أن يعيش بمكة بعيداً عن والديه، لكنه تغلب على غربته ووحدته بقراءة كتب التراث ومجلات الأدب، ومناقشة مواهبه مع جدته المتعلمة، واستعراض مهاراته أمامها.

ونجح في إتمام دراسته الإعدادية، وكان وقتذاك ينفق على حاجته الشخصية من خلال العمل في إجازته المدرسية، كمطوف للحجاج والمعتمرين.

بعد الإعدادية، واصل دراسته بمعهد المعلمين الثانوي بمكة، كي يغدو معلماً للأجيال، ويؤثر في تفكيرهم وتوجيههم إلى الأفضل.

وفي أحضان هذا المعهد، وحينما كان في سن السادسة عشرة، بدأ أولى محاولاته الشعرية الخجولة، وكانت عبارة عن قصيدة كلاسيكية مطلعها «إذا جاد الزمان لنا بيوم/ وصالاً جاد بالهجران عاما»، عارض بها قصيدة «إلام الخلف بينكم إلاما/ وهذي الضجة الكبرى علاما» لأحمد شوقي، وهو ما لفت الأنظار إليه وهو شاب يافع.

بدأ الثبيتي مسيرته الوظيفية فور تخرجه في كلية المعلمين سنة 1972، كمدرس بمدرسة المطعن بجازان، وهناك طرقت مسامعه لأول مرة معلومات أدبية وفكرية جديدة، من خلال مخالطته لزملائه المدرسين العرب، ومن خلال بحثه وقراءاته في مطبوعات كان يشتريها من مكتبة العقيلي.

بعد فترة من العمل في جازان، تقرر في عام 1975 نقله للعمل بإحدى مدارس مكة، فشد رحاله إليها، وهو موشوم بآثار الملاريا التي أنهكته لسنوات.

وهنا، يبدو أن الحنين للدراسة قد عاوده بهدف الحصول على درجة علمية أعلى، فقرر الانتساب إلى جامعة الملك عبد العزيز بجدة، التي منحته بعد أربع سنوات ليسانس الآداب في علم الاجتماع.

وقتها كان قد أصدر ديوانه الشعري الأول الموسوم «عاشقة الزمن الوردي»، فتقدم بنسخة إهداء إلى وزير المعارف آنذاك، الدكتور عبد العزيز الخويطر، أملاً في أن يُستجاب لرغبته في الانتقال من مهنة التدريس إلى وظيفة إدارية، لكن لم يُستجَب لطلبه، بسبب حاجة الوزارة فترتئذ للمعلمين السعوديين، فقنع بما كتبه الله له، وانتظر إلى عام 1984، الذي تم فيه نقله للعمل في قسم الإحصاء بإدارة التعليم، الذي صار رئيساً له في عام 1995، ثم انتقل للعمل بالمكتبة العامة بمكة، التي مكنته من الاطلاع على مختلف المؤلفات، والسياحة في شتى مجالات المعرفة، فتفرغ لها حتى حان موعد تقاعده من العمل الحكومي سنة 2006، ليتفرغ بعدها لنشاطه الأدبي، مدشناً عودته إلى الساحة من بعد غياب قسري.

غير أن المنية وافته بمكة في 14 يناير 2011، حيث كان قد تعرض لأزمة قلبية حادة، بعد عودته من رحلة ثقافية إلى اليمن في عام 2009، ما جعله مذاك يتنقل بين المشافي طلباً للعلاج.

وفي اليوم التالي لوفاته ووري جثمانه الثرى بمقبرة المعلاة، بعد أن صلي عليه في الحرم المكي. وبهذا رحل الثبيتي، تاركاً خلفه زوجته وابنة عمه (أم يوسف)، وخمسة من الأبناء (يوسف وهوازن ونزار وشروق ومي)، علاوة على تاريخ امتد لثلاثة عقود، تزعم خلالها شعراء الحداثة في وطنه، ناهيك عن مجموعة من الأعمال الشعرية، من أهمها: قصيدة «تغريبة القوافل والمطر»، ديوان «التضاريس»، الذي شكل ظهوره حدثاً مفصلياً في تاريخ الشعر السعودي، لاحتوائه على معجم متنوع وسياقات نوعية في إيقاعات الحياة المتجددة، ديوان «موقف الرمال»، ديوان «تهيجت حلماً تهيجت وهماً»، ديوان «عاشقة الزمن الوردي»، وديوان محمد الثبيتي (الأعمال الكاملة)، والذي تولى طباعته النادي الأدبي بحائل.

أما الجوائز والألقاب التي حصل عليها خلال مشواره الأدبي، فشملت: لقب شاعر عكاظ في حفل تدشين فعاليات مهرجان سوق عكاظ الأول سنة 2007، جائزة النادي الأدبي بجدة سنة 1991، عن ديوانه «التضاريس»، جائزة أفضل قصيدة من مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري سنة 2000، عن قصيدته «موقف الرمال»، الجائزة الأولى في مسابقة شعرية نظمها مكتب رعاية الشباب في مكة سنة 1977.

علاوة على ما سبق، تم تكريمه في أكتوبر 2010، بقريته في محافظة بني سعد، حيث حضر أهالي القرية من أميين وكبار السن، حاملين دروعاً تذكارية أو هدايا قيمة لتقديمها لابن قريتهم.

أما بعد وفاته، وتحديداً في عام 2012، فقد أقر مجلس إدارة نادي الطائف الأدبي الثقافي، جائزةً سنويةً للإبداع بقيمة 200 ألف ريال باسم شاعرنا، تكريماً له.. قلنا إن الثبيتي لقب بـ «سيد البيد»، وذلك لارتباطه وجدانياً بمعاني ومعالم الصحراء المختلفة، من جدب ونضوب وتلاشٍ وزوال، وخير وعطاء وانطلاق، ويأس وضياع وحرمان وحلكة في الليل.

هذا الارتباط الذي ساعده في خلق صور من خلال مخزونه الثقافي وقراءاته وتجاربه الحياتية، على نحو ما كتبه في قصيدة «الأعراب»: «ليتهم حين أسرجوا خيلهم.. وتنادوا إلى ساحتي.. أوقدوا نارهم تحت نافذتي.. واستراحوا / ليتهم حينما أدلجوا في غياهب ظني.. بلوا حناجرهم بنشيد السرى.. واستبانوا صباحي.. إذ يستبان صباح».

وفي هذا السياق أورد عبد الرحمن العكيمي في مقاله بجريدة عكاظ (14/1/2017)، قولاً للناقدة شيمة الشمري، ذكرت فيه أن الثبيتي، وعلى منوال الأعرابي الذي يدين لصحراء الجزيرة العربية بالحب، ارتبط ببيئته «فوصف جبالها وسهولها وسواحلها وشواطئها، وتغنى بمعالمها، بدافع الهرب من الحياة، والهيام بالطبيعة، كديدن أدباء الرومانسية.

ويتجلى ذلك في أبيات متعددة في شعره، ومنها قوله: (للنخل للكثبان للشيح الشمالي.. وللنفحات من ريح الصبا.. للطير في خضر الربى.. للشمس.. للجبل الحجازي.. وللبحر التهامي).

كتب عنه الشاعر والناقد اللبناني شوقي بزيع في عكاظ (١٦/١/٢٠١٤) قائلاً: «لم يطل العمر بمحمد الثبيتي لكي يذهب بإنجازه الشعري المتميز إلى تخومه الأخيرة، أو يستنفد بشكل كامل تلك الطاقة الكامنة في شعره، والتي ظل لهيبها يفصح عن نفسه قصيدة تلو قصيدة، ومجموعة إثر أخرى. ومع ذلك، فإن ما أنجزه شاعر (التضاريس)، على قلته الكمية، جعلت منه أحد أبرز رموز التجديد في المملكة العربية السعودية، وفي العالم العربي بوجه عام».

لكن العمر أطال بصاحبنا، على الأقل، حتى أعيد له الاعتبار في عصر التحولات الثقافية والفكرية المدهشة، وانحسار هيمنة المتشددين على المشهد العام في بلاده.

وأخيراً، فقد أجاب الثبيتي عن سؤال محاوره في جريدة الحياة (مصدر سابق) «متى رددت (أريد من زمني ذا أن يبلغني ما ليس يبلغه من نفسه الزمن)؟»، بقوله: «لست المتنبي لأردد ما قال، ولا ريب أن طموحه كان مختلفاً، وأكبر من طموحنا، فعلى المستوى الشخصي، لا أطمح إلى أكثر من صحة البدن، ومزيد من الوعي والنضج الفكري والاجتماعي».

وفي نفس الحوار وصف كتاب القرني آنف الذكر ضده بالسقوط السحيق، مضيفاً: «لو كنت مكانه لأخفيته وأحرقته، فما كتب عار أمام الأجيال المقبلة.

ليس لأنه تناول الحداثة وكفّر الحداثيين، بل لأنه تجاوز سلوك تعامل المسلم الحقيقي العفيف، والمترفع عن تصيّد أخطاء الناس، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده».

Email