«وقف الأم» رسالة شرعية وتربوية

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا تتوقف رحلة دولة الإمارات في بحور البذل والعطاء، وذلك منذ فجر تأسيسها، على يد المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وإخوانه القادة المؤسسين، بل تتجدد هذه الرحلة باستمرار، لتكون دولة الإمارات أيقونة للعمل الخيري والإنساني المستدام، ويكون الإنسان وبالأخص المحتاجين في كل مكان محوراً رئيساً من محاور اهتماماتها الجوهرية، إيماناً منها بمسؤولياتها في تعزيز قيم التضامن والتكافل والتعاون، بما يصب بالخير والنفع على الإنسانية جمعاء.

ومن هذا المنطلق أطلق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، حملة «وقف الأم» تزامناً مع شهر رمضان الفضيل، شهر الجود والكرم والإحسان، من خلال إتاحة الفرصة لكل شخص للتبرع باسم والدته، وذلك بهدف إنشاء صندوق وقفي بقيمة مليار درهم لدعم التعليم حول العالم.

إن هذه المبادرة الوقفية الجليلة تحمل رسائل شرعية وتربوية جليلة، وقِيَماً نبيلة، منها تكريم الأمهات، وتعزيز مكانة بر الوالدين في المجتمع، وإيصال الثواب إليهما عبر الصدقات الوقفية، التي يدوم خيرها ويستمر نفعها، سواء كان ذلك في حياتهما أو بعد مماتهما، امتثالاً لقول الله تعالى: {وبالوالدين إحساناً}، ومن أعظم صور الإحسان للوالدين إنالتهما الثواب بمثل هذه القربات المستدامة، وخاصة الأم، التي ورد التأكيد على حقها، والإحسان إليها، لعظيم فضلها وجلالة قدرها.

ومما تعكسه هذه المبادرة كذلك تربية النفس على الصدقات، ونفع الآخرين، وخاصة عبر العناية بالوقف، لعظم أثره وعميم نفعه، فالوقف منبع مستدام من منابع الاقتصاد والتنمية والعمل الإنساني عبر العصور، تسابق إليه المتبرعون من الرجال والنساء، رغبة منهم في نيل الأجر والثواب، وكان له دور كبير في توفير الرعاية الاجتماعية والصحية ومساندة المحتاجين والأيتام والأرامل، وغيرهم وتسبيل المياه ونشر التعليم ودعم التقدم والازدهار والعمران، وهو يرتكز على مبدأ الاستدامة والاستمرارية في تحصيل المنافع والمصالح، وذلك ببقاء الأصل الموقوف مدة طويلة، ودوام الانتفاع به في سبل الخير.

ومن أعظم المصالح والمنافع، التي ينبغي العناية بها والإسهام في دعمها وتوجيه الصدقات إليها التعليم، الذي هو أساس نهضة المجتمعات وتقدمها، ولا غنى للأفراد عنه، وخاصة في واقعنا المعاصر، وبالأخص في المجتمعات الفقيرة، التي تعاني من شح في المدارس، ولا يستطيع كثير من أفرادها تحمل أعباء التعلم، وقد لاقى هذا المجال– أعني التعليم - اهتماماً كبيراً في التاريخ الإسلامي من قبل الواقفين، فبنيت الكثير من المدارس الشهيرة، التي تخرج فيها علماء نابغون، والتي كانت تعتمد على أوقاف المتبرعين، ويذكر ابن خلدون في مقدمته تأثير الوقف في بناء المدارس وانتشار التعليم وكثرة طلاب العلم ومعلميه وازدهار الحضارة والعمران في بعض المدن الإسلامية الكبرى مثل بغداد والقاهرة والقيروان وقرطبة وغيرها، والتي كانت مراكز ومشاعل للعلم والحضارة، وكانت مقصداً للناس من كل مكان، يتزودون فيها بالعلم والمعرفة.

ويتزامن إطلاق حملة «وقف الأم» مع شهر رمضان المبارك، الذي يتنافس فيه الصائمون على الطاعات والقربات، اقتداء بالنبي، صلى الله عليه وسلم، الذي كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، وإن ‌الوقف من أفضل الصدقات والقربات، التي يثاب عليها الإنسان، وهو مندوب إليه، لقول الله تعالى: {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون}، وقوله عز وجل: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، وقول النبي، صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا ‌من ‌صدقة ‌جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، وحمل العلماء الصدقة الجارية على ‌الوقف، وحرص المسلمون منذ العهد النبوي على الوقف، وتسابقوا إلى ذلك، لينفعوا الناس ويسهموا في بناء مجتمعهم ونهضته، وتعزيز قيم التكافل والتضامن فيه، ولذلك قال جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: «ما بقي أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له مقدرة إلا وقف».

إن «وقف الأم»، الذي أطلقته دولة الإمارات مبادرة إنسانية مباركة، تكرس أبهى الرسائل والقيم، قيم التضامن والتكافل والعطاء المستدام، والوفاء للأم، التي هي رمز البذل والعطاء والتفاني.

Email