جينات الإبداع تئدها مدارسنا!

ت + ت - الحجم الطبيعي

حاولت وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» قياس مدى وجود قدرات إبداعية كامنة في علمائها ومهندسيها. وكانت تتطلع إلى تحديد كيفية نظر هؤلاء إلى المشكلات بطريقة تسهم في توليد حلول خلاقة عديدة. وهو ما تستدعيه طبيعة العاملين فيها. ويتطلب الاختبار أن يتقدم المشاركون بأكثر أفكار ممكنة لحل مشكلة ما، شريطة أن تكون فعالة في تحقيق الأغراض التي أنشئت من أجلها الوكالة.

الباحثون أنفسهم بقيادة البروفيسور جورج لاند قرروا اختبار نحو 1600 طفل بين سن الرابعة والخامسة. فكانت النتيجة الصادمة أن 98 في المئة من الأطفال، اعتبروا عباقرة في التفكير الإبداعي. وبعد أن بلغ أولئك الأطفال سن العاشرة تتبعهم الباحثون، في تلك الدراسة الطويلة longitudinal، ليكتشفوا أن المبدعين منهم لم تتجاوز نسبتهم 30 في المئة! ولما بلغوا الخامسة عشرة من العمر، انخفضت نسبة المبدعين إلى 12 في المئة، غير أن الصدمة الكبرى جاءت حينما كشفت العلماء بأن الاختبار نفسه حينما قدم إلى البالغين لم تتجاوز نسبة المبدعين منهم حدود 2 في المئة فقط! تطرق إلى ذلك د. محمد اللواتي في المؤتمر الخليجي لتنمية الموارد البشرية عن الإبداع والابتكار في بيئات العمل «الذي عقد في دبي بتنظيم وإشراف د. مشاري الشلهوب الرئيس التنفيذي لتشكيل للاستشارات الإدارية.

المحزن في الموضوع أن المدارس بنمطها التقليدي تسهم في قتل جينات الإبداع. وهو أمر ملاحظ، فالتعليم النظامي يساوي بين المبدعين في قصاصات صغيرة نسمّيها اختبارات. وبعد عقود من التجربة والخطأ تجرأت مدارس أخرى على تنويع وسائل التقييم إلى عروض تقديمية، وتقارير، وفرق عمل، ومشاركات صفية وغيرها في محاولة «عرجاء» للوصول إلى تقييم عادل. غير أن المشكلة ما زالت قائمة في مدارس عديدة يقضي فيها المرء عنفوان شبابه، ثم يجد نفسه وقد فقد كماً هائلاً من قدراته الإبداعية. والمتأمل ليوميات الطالب، يجده يسير في منهج صارم، يلزم الجميع بإنهاء وحل المشكلات بالطريقة النموذجية الموجودة في ذهن المعلم.

يخبرني أحد الأصدقاء أن زوجته عبقرية في الرياضيات وتخصصت فيه ورأى بنفسه آثار ذلك في كل حياتها نحو الأفضل، لكنها اضطرت إلى ترك الدراسة الجامعية عندما عاقبها بروفيسور المقرر بالرسوب في المادة لأنها قدمت حلاً أقصر وأفضل في الاختبارات النهائية لمعظم الإجابات وهو ما لم يعجب الدكتور لأنه حسب كلامه بأنه ليس لديه متسع من الوقت لقراءة جميع الحلول. هو يريدها أن تكون نمطية ولا تضيف شيئاً يذكر سوى صف كل الإجابات النموذجية. وهذا مما يقتل الإبداع البشري. فحتى في الرياضيات هناك طرق متعددة للإجابة عن المعادلات الرياضية. ولذلك تركت الجامعة في لحظة غضب.

وفي دراسة أخرى ذكرتها مجلة «فوربس» للبروفيسور كي أتش كم عام 1990 أظهرت أن الإبداع ينخفض في الولايات المتحدة الأمريكية. ويُعزى أسباب ذلك إلى التركيز الكبير على مسألة التوافق أو التطابق مع اللوائح والنظم والتعليمات conformity والتراتبية الإدارية والنفور من المخاطر. وهذا يذكرني بدراسة أخرى قرأتها بأن أحد أكثر معوقات الإبداع للقياديين يكمن في العمليات المؤسسية وتعقيداتها. وعندما درسوا معوقاته لدى الشباب وجدوا أن أكبر عائق هو عبء العمل workload فكيف نتوقع أن يبدع الشباب ويأتونا بحلول خلاقة وهم منغمسون في ضغوطات وظيفية. الإبداع يتطلب فسحة من الوقت، والمكان، والراحة بعيداً عن القيود. وهو ما لا نجده لا في مدارسنا التي تعاقب الطالب «الطفشان» بسبب خروجه للاسترخاء قبل موعد انتهاء الحصة الدراسية ولا نجده في بيئات عمل كثيرة، «تخشبت» ونسيت مرونة الإبداع.

عندما منحت شركة غوغل، موظفيها نحو 20 في المئة من أوقاتهم لتقديم أفكار إبداعية تمخض ذلك عن فكرة Ad sense التي تدر على البشر الملايين من أنشطتهم عبر الإنترنت، وقدموا كذلك البريد الإلكتروني gmail وغيرها الكثير. إذا لم يشعر الشباب والأطفال بأن أفكارهم الإبداعية تلقى آذاناً صاغية داخل أسوار المدرسة، بالتكريم والتقدير فإن ما تبقى من إبداع سوف يتضاءل شيئاً فشيئاً وينضمون إلى ركب التقليديين خارج أسوار المدرسة.

 

Email