التواصل بالمعرفة

ت + ت - الحجم الطبيعي

قياس تطور كل أمة من أمم الأرض يأتي وفق عدة معايير من أهمها ما تقدمه للإنسانية من مخترعات ومبتكرات مفيدة تطور مسيرة البشرية، فضلاً عن منتجها الأدبي الذي يطور الفكر وينمي الثقافة والمعرفة، ومع الأسف فإن الأمة العربية وفي هذا المضمار تحديداً تعاني من توقف أو من جمود إذا صح التعبير، وهذا الخلل لا يتوازى أو يتماشى مع مقدرات الوطن العربي وثرواته وتنوعه، فضلاً عن عدد سكانه الذي تجاوز ثلاثمئة مليون.

وفي مجال الأدب تحديداً هناك تراجع واضح وغير مبرر أو غير مفهوم الأسباب، لكن يصب في خانة التهمة التي ألصقت بنا وهي أننا أمة لا تقرأ!. على سبيل المثال إذا نظرنا إلى الكتابة والإنتاج الأدبي العربي بصفة عامة، فإننا سندرك أنها لم تصل إلى المرحلة التي تجعلنا في صف الأمم العالمية الأخرى.

هناك عدة أسباب لمثل هذه الحالة العربية، لعل منها فشلنا في التواصل مع بعضنا ومن ثم إخفاقنا في فهم إنتاجنا وتعميمه ونشره على كافة دولنا العربية، لذا من الطبيعي أن يكون هناك تعثر على ساحة أكبر وهي الساحة العالمية.

يظهر تساؤل عن الأسباب في كل هذه الذاتية والانغلاق وعدم انتشار الكتاب العربي وعدم الاحتفاء به عالميا، وأرجع أولى الأسباب وأهمها إلى الفقر في الترجمة، فإذا صح التعبير يوجد احتكار في هذا المجال من دور نشر محددة، لها معايير وشروط ومواصفات للكتب التي تهتم بها وتقدمها للآخر، فضلا عن محدودية في مجال إقامة مؤسسات تهتم بنقل الإنتاج العربي إلى الآخر، فكل الذي يتم الآن هو تعاقدات واتفاقيات بين وزارات الثقافة مع دور نشر، لعمل ترجمة كتاب أو اثنين في العام الواحد.

أدرك أن هناك صعوبات في هذا المجال تبدأ من اختيار العمل الأدبي مرورا بمدى نجاحه وتقبل القارئ العالمي له، كون القضايا والمواضيع والاهتمامات تختلف، كما أنه يوجد بون شاسع بين القضايا التي تؤرقنا وبين تلك التي تؤرق المواطن سواء كان في بريطانيا أو في الصين أو في اسبانيا أو في غيرها، إلا أن التخطيط ووضع المعايير والمتطلبات والأهداف لأي مشروع يستهدف تنمية هذا الجانب وتطويره، قد يلاقي النجاح والاهتمام، صحيح أنه يوجد لدينا عدد من البرامج والمؤسسات التي تهتم بهذا المجال وتقوم بدور حيوي وهام تشكر عليه، لكنني أتحدث عن العالم العربي بعمومية وأؤكد أننا في حاجة للمزيد وأيضا للتطوير حتى الوصول للعالمية.

وفي الحقيقة فإن حاجتنا من الترجمة حاجة مزدوجة بمعنى أننا بحاجة لنقل إنتاجنا العربي إلى اللغات الأخرى وأيضا نحن بحاجة لنقل العلوم والاكتشافات والتي تصدر وتعلن لدى الآخر إلى اللغة العربية.

في عصور ماضية كان لدى العرب شغف واهتمام بالترجمة، وقد أوضح هذا الجانب الدكتور عبدالسلام كفافي، في كتابه الأدب المقارن، حيث بين أن العرب كانوا «يرتحلون للتجارة ويتأثرون بالأمم في مختلف نواحي الحياة، بل وصلت حدة هذا التأثر بالأمم الأخرى إلى اللغة نفسها حيث انتقلت على سبيل المثال بعض الألفاظ الفارسية إلى اللغة العربية، وظهرت هذه الكلمات في شعر عدد من الشعراء، مثل الأعشى، كذلك تأثروا بالبيزنطيين في جوانب حياتية مختلفة كالصناعة وغيرها، وغني عن القول أن هذا التأثر لم يكن ليحدث لولا وجود الترجمة والتي كانت تساعد على التواصل والتفاهم.

الشغف العربي بالآخر وباكتساب العلوم كان واضحا في حقب تاريخية مختلفة حيث ترجم العرب من اليونان الكثير من العلوم مثل الموسيقى والطب والرياضيات والفلك، وهذا الاهتمام وصل إلى مرحلة متقدمة من تشجيع المترجمين وتقديم الهدايا والمكافآت لهم. ومن الغرائب أن هناك كتباً هامة تمت ترجمتها من اليونانية إلى اللغة العربية فقدت أصولها اليونانية بسبب الحروب التي وقعت في تلك الفترة في أوروبا، ولم ينقذها من الضياع إلا الترجمات العربية التي بقيت محفوظة، فتم إعادة نقلها إلى اليونانية عن طريق اللغة العربية.

الترجمة علم شاسع وكبير، وهو علم يتوجه نحوه المترجم وتدفعه رغبة فنان، وليست وظيفة روتينية اعتيادية، يقول موقع ويكيبيديا على شبكة الانترنت: «لا تكون الترجمة في الأساس مجرد نقل كل كلمة بما يقابلها في اللغة الهدف ولكن نقل لقواعد اللغة التي توصل المعلومة ونقل للمعلومة ذاتها ونقل لفكر الكاتب وثقافته وأسلوبه أيضا، لكن اختلفت النظريات في الترجمة على كيف تنقل هذه المعلومات من المصدر إلى الهدف، وتعتبر الترجمة فنا مستقلا بذاته حيث إنها تعتمد على الإبداع والحس اللغوي والقدرة على تقريب الثقافات وهي تمكن جميع البشرية من التواصل والاستفادة من خبرات بعضهم البعض. فهي فن قديم قدم الأدب المكتوب».

وبالفعل فالترجمة تثري البشرية وأيضاً تساهم في حفظ وبقاء الأعمال الإنسانية ماثلة ومتداولة من أمة إلى أمة أخرى، فعلى سبيل المثال تعد ملحمة جلجامش السومرية، من أهم وأقدم الأعمال الأدبية، وقد تم ترجمتها إلى الكثير من اللغات الحية ويقال إن بداية ترجمتها كانت منذ الألفية الثانية قبل الميلاد، وهي حتى اليوم متواجدة بتنوعها وقصصها والملاحم التي احتوتها من الحروب إلى الغرائب.

أعتقد أنه مع تطور وسائل الاتصال والتواصل، باتت المهمة أكثر صعوبة رغم أن هذه الوسائل الحديثة ساهمت بطريقة أو أخرى في التقريب من أمم وشعوب العالم والثقافات المختلفة، وباتت هناك أجهزة ومواقع تهتم بالترجمة وتقدم حتى للقارئ غير المتخصص أو غير المتقن للغة ما النص الذي يريده مترجما وإن كانت ترجمة ضعيفة إلا أنه من المتوقع أن تحدث تطورات هائلة وكبيرة في هذا السياق قد تساهم في دفعه قوية لمزيد من التواصل العالمي. وهنا نتطلع لدور ريادي وكبير، دور يكون مزدوجاً تتبناه المؤسسات الحكومية الثقافية وأيضا المؤسسات ذات التوجه الربحي فلا يضير، فالمهم أن تكون هناك غزارة في نقل الأدب العربي وغيره من العلوم إلى لغات العالم، وفي نفس الوقت ترجمة الأعمال الأدبية وغيرها من العالم إلى العربية.

بحسب تقرير التنمية العربية، فإن فرنسا خلال نصف قرن – خمسين سنة – ترجمت ما يقارب من 150 ألف كتاب أما ألمانيا فقد ترجمت حوالي 260 ألف كتاب، أما العرب فقد ترجموا أكثر بقليل من 9 آلاف كتاب فقط. نعم إنه وضع مؤلم فالتواصل مع العالم يجب أن يكون معرفياً حضارياً وليس استهلاكياً وحسب، حتى نشعر أننا أمة لها حضورها في واقع العالم تؤثر وتقدم خدمات فعالة ومفيدة للبشرية بأسرها.

صحيح أننا ولله الحمد في الإمارات ندرك هذا البعد الإنساني، فتم إطلاق عدة مشاريع فعالة قدمت رغم عمرها القصير مئات الكتب والمؤلفات وحركت المياه العربية الساكنة الراكدة مثل مشروع كلمة للترجمة في أبوظبي والذي يعد واحداً من أكبر مشاريع الترجمة إلى اللغة العربية من مختلف لغات العالم وله أهداف تستحق الإشادة مثل سعيه لتفعيل التواجد العربي في أوروبا والعالم بأسره ويتطلع القائمون عليه أن يقوموا في أقل من ثمانية أعوام، من ترجمة أكثر من عشرة آلاف كتاب، وهناك مشروع ترجم الذي أطلقته مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، والذي يهدف إلى دعم الترجمة في العالم العربي من أجل تحفيز الإبداع في كافة المجالات الفكرية والمعرفية ويركز على ترجمة الكتب في مجال الإدارة حاليا لحاجة العالم العربي لها.

وتوجد عدة مشاريع ومؤسسات أخرى في الإمارات تقوم بالترجمة ولها حضور وفعالية، وأعتقد أنه بمثل هذه المبادرات وبمثل هذه المشاريع المعرفية فإننا نقوم بدورنا الإنساني والحضاري، وهي مهمة فائدتها للبشرية كافة، كلي أمل أن أشاهد في العالم العربي ورشة من العمل الفكري والتواصل العفوي لمزيد من الإنتاج الذي يثري ويفيد.

Email