المعرفة التي سطعت من تراث الإنسان

ت + ت - الحجم الطبيعي

تم بناء الحضارة على مجموعة من المعارف والعلوم التي بدأت ممزوجة بخرافات وخوارق للعادة لم يعترف بها إلا قلة من العلماء، ثم تطورت إلى قيم وتراث معرفي تم توارثه من جيل إلى آخر حتى جاء من طورها ونقلها إلى علوم ومخترعات واكتشافات ساعدت الإنسان على أن يعيش حياة أكثر رفاهاً وصحة وسعادة. وهذا صحيح فالإنسان حصاد معارفه كما قال جيمس بيرك في كتابه القيم «عندما تغير العالم».

لذا من الأهمية أن ننظر اليوم نحو حصادنا سواء من العلوم أو من العادات والتقاليد فهي زرع الأجداد وغرس الآباء، فبارك الله في هذا الغرس والزرع الذي علمنا أن نعيش على أرض الصحراء أقوياء متحدين نعمرها ونبنيها، هذا الغرس المبارك الذي جعلنا وطناً وأمة على خارطة الكون ننعم بالسعادة والخير العميم.

إنه تراث من القيم الأصيلة والمعارف الحياتية والعادات العميقة، هذا التراث الذي فيه عبق الماضي الجميل للآباء والأجداد، والذي نعيش في كافة تفاصيله رحلة تحكي عن الإنسان وكفاحه الشريف المتواصل مع كل أجزاء الحياة من الطبيعة القاسية مروراً بلقمة العيش التي يركض نحوها في معارك شبه يومية لا تتوقف... لا بدّ أن نؤمن بحتمية التراث وقيمته وعمقه وقبل كل هذا أهميته لنا وأنه جزء من المعاصرة والحداثة وأنه لا يمكن الفصل بينهما، مرة أخرى يقول جيمس بيرك: «أنت تستطيع عبور الطريق، عندما تتحول أمامك إشارة المرور إلى اللون الأحمر، فتتوقف السيارات. هذا مجرد مثل يعبر عن الثقة العصرية في الطريقة التي يتم بها تسيير المجتمع، وهي الطريقة التي تولدت في الغرب الأوروبي منذ ثمانمائة عام مضت».

والشاهد هنا هي الثقة العمياء بتكنولوجيا العصر، وأعتقد أنها تولدت من سلسلة طويلة من المعارف التي كانت ضاربة العمق في الزمن الماضي حتى وصلتنا اليوم فبتنا نؤمن ونعتقد بفائدتها للإنسانية بأسرها. نحن بحاجة ماسة أن نثق بقوة ماضينا، بكل معارفه وتفاصيله، فالسيّئ يمنحنا فائدة تجنبه والمفيد منه يعطينا المزيد من العمل لتطويره وتنميته.

التراث لم يكن جامداً أو عالقاً في زمن تلاشى كما قد يظن البعض، التراث يعاني لدينا فقط من حالة عدم الفهم لوظيفته ومدى جسارته وقوته ليكون جسراً متيناً نحو المعاصرة والحداثة بكل ما تعني الكلمة؛ فالصورة النمطية في الذهنية العربية أن التراث عبارة عن معارض ومحاضرات ومهرجانات تقام بين وقت وآخر، وأن التراث بكل ما تحوي هذه الكلمة من معنى يتجه نحو الاضمحلال والنسيان، ومما يؤسف له أن هذه النظرة على قصرها وضبابيتها وأيضاً سطحيتها تجد من أبناء جلدتنا من يروج لها ويتبناها، لكن من الجميل أن يكون خير رد على ضحالة فكر هؤلاء هذا الاهتمام العالمي بالتراث الإنساني بأسره، ولو تساءلنا لماذا تتبنى منظمة عالمية كالأمم المتحدة واحدة من أهم أذرعتها في خدمة الإنسانية «اليونسكو»، والتي توجد فيها عدة أقسام تُعنى بخدمة التراث منها مركز إحياء العمارة الإسلامية، وهي تهدف عموماً لإنقاذ التراث الإنساني، أقول لو تساءلنا لماذا تأخذ منظمة عالمية على عاتقها حماية التراث؟ بل المساعدة في نشره وترميمه، لأدركنا كيف تنظر الأمم المتحضرة والأكثر توهجاً في كافة العلوم الإنسانية نحو التاريخ، ولأدركنا أننا لا نظلم تراثنا ونتجنى عليه بقدر أننا نظلم أنفسنا ونقسوا عليها، عندما نحرمها من نعمة النظر العميق نحو الماضي بتفاصيله وعمقه، وهذا لا يعني أن نعيش في جلباب الماضي ونركن له وننسى الحاضر والمستقبل، بل يجب علينا أن نفرق وبشكل دقيق بين الحضارة والماضي وبين التاريخ والمستقبل.

يقول فرويد إن الحضارة هي جملة الإنجازات والقواعد التي تميز حياتنا عن حياة أسلافنا.. لكن الدكتور مراد وهبة كان له تعريف أكثر دقة وشمولاً عندما قال في المعجم الفلسفي إنها جملة من مظاهر التقدم الأدبي والفني والعلمي والتقني والتي تنتقل من جيل لآخر. عندما أقارن هذين التعريفين للحضارة بما فعله أجدادنا من العلماء العرب في فترة سماها المؤرخون الغرب «العصور المظلمة» وفقاً لما كانوا يعيشونه من جهل وتقاتل، أجد أنه لا جدال في أن ذلك العصر كان عصراً ذهبياً في تاريخنا العربي وأيضاً في تاريخ العلوم الطبيعية والفلسفة والمنطق. فالإسلام في فترة من فتراته وبالتحديد قبل ألف سنة، تحول إلى حضارة متكاملة كانت السبب في نهوض العالم وحصول الثورة الصناعية وظهور الكم الهائل من الاختراعات في القرن العشرين. إن علوم الطبيعة كالفيزياء والكيمياء والأحياء والجيولوجيا تم تأسيسها أو لنقل تم التأثير فيها وتجديدها وإضافة حقائق ونظريات مهمة إليها، بواسطة العلماء المسلمين.. ما زال الغرب يكرمهم ويذكرهم حتى اليوم.. فبينما كانت أوروبا تمر بحالة من الفوضى كان علماء الحضارة الإسلامية يجرون تجاربهم ويكتبون أبحاثهم ونظرياتهم لتأسيس الحضارات القادمة.

والشواهد والأدلة في هذا السياق عديدة ومتنوعة أسوق أحدها وهو عن العالم محمد بن موسى الخوارزمي مؤسس الجبر والحساب، الذي اكتشف قيمة الصفر ووضع منازل للأعداد كالآحاد والعشرات والمئات.. وهو أيضاً الذي أوجد «اللوغارتم» وهذه الكلمة أصلها خوارزم اقتباساً من اسم مؤسسها، هذا النوع من العمليات الحسابية هو الذي تعتمد عليه لغات البرمجة التي تقوم بتصميم أنظمة الحاسب الآلي اليوم.. لذلك سمي الخوارزمي بأبو الحاسوب –ألا يعتبر هذا من التراث- فهو الذي مهد لاختراع هذا الجهاز العظيم قبل ألف ومئتي سنة!..

Email