نحو علمية التراث ودراساته

ت + ت - الحجم الطبيعي

 الاهتمام بالتراث مطلب يتزايد إلحاحاً ويتعاظم مع سطوة التطور التكنولوجي والتقدم البشري، وفي الإمارات تحديداً العناية بتراث الآباء والأجداد جزء من التنمية وجزء من الخطط الطموحة نحو المستقبل والتطور، لذا نشاهد الهيئات المتخصصة والمراكز التي تولي العناية والاهتمام بهذا لإرث الإنساني.

التراث ليس مقتنيات وأدوات تركها الآباء والأجداد، بل هو الماضي بكل تفاصيله وأنواعه، فهناك التراث المتمثل في المقتنيات، وهناك تراث العادات والتقاليد، وهناك تراث ثقافي واجتماعي، وهناك تراث القيم والمفاهيم.
هذه العناية بالتراث، تزعج البعض ممن يرى أن الاهتمام بالماضي غير مبرر كونه يتم على حساب المستقبل والتخطيط له، ودون استحضار مقولات أو آراء أصحاب هذا التيار الرافض، أشير إلى السبق الغربي في العناية بتركة الماضي، حيث تعتبر المحافظة على التراث الإنساني شاملاً لكل تفاصيله وعلومه، وتعتبر دراسته جزءاً من التفكير العام، فهم يعتبرون التراث على مختلف أنواعه على درجة عالية من الأهمية لأنه يتضمن قيماً ومبادئ يجب دراستها وحفظها، لذا نشأ في عدة دول أوروبية علم يقوم على المصادر التراثية في إنجلترا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا، نجد مثل هذا التوجه حاضراً في عدة جامعات حيث تتواجد بين أروقتها أقسام علمية تدرس وتبحث في هذا المجال، وأيضاً تقوم هذه الأقسام العلمية بالحفاظ على التراث من الاندثار وصونه من التلف وتحفظ مصادره ومراجعه وحمايته من التدمير الذي يتم في أحيان بأيدي الإنسان نفسه، وأيضاً تهتم هذه الأقسام العلمية بجعل التراث متواجداً في ظل التطور التقني والحضاري الذي تعيشه البشرية وتعمل أن يكون جزءاً من هذا الحاضر.

منظمة عالمية مثل اليونسكو خير مثال لهذا الحضور فمهمتها الرئيسة حماية التراث العالمي من الاندثار وصونه ورعايته وسن القوانين التي تعمل على حمايته.

مع الأسف فإن عالمنا العربي متراجع في هذا المجال، باستثناء دولة أو بضع دول، رغم أن عالمنا العربي يضم تراثاً عالمياً وإنسانياً بالغ الأهمية.

لقد حان الوقت لتصبح دراسات التراث موضوعاً ضمن المنظومة التعليمية في عالمنا العربي، لأن دخول دراسات التراث في المناهج وأيضاً أن تكون هناك أقسام علمية معترف بها، يعني جيلاً متعلماً يدرك كيفية التعامل مع الموروث البشري وكيفية حمايته واستثماره وتقديمه للجمهور ليصبح جزءاً من واقع الناس وليس منفصلاً عنهم.

وأعتقد بأنه مع التطور الذي نعيشه في هذا العصر، وحضور الهواتف الذكية والتطبيقات وسطوة مواقع التواصل الاجتماعي، تحتم مثل هذا التوجه نحو علمية التراث ودراسته، لأن هذا التوجه هو الذي سيولد الأفكار والابتكارات لجعل هذا الموروث جزءاً من الناس، دون العلم لا يمكن نقل هذا التراث ليصبح متواجداً وله حضور على الهواتف الذكية والتطبيقات المتنوعة، بل لا يمكن أن يصبح له حضور في عمق التقنية التي يتعامل معها الناس، وسنجد بعد بضع سنوات أنه – أي التراث – معزولاً في المتاحف أو في الكتب في عمق المكتبات، والمواقع التراثية لا أحد يعرف أين مقرها، وهذا الانفصال يتم بشكل تدريجي وبطيء، يجب أن نستلهم التجربة الأوروبية التي نجحت في جعل تراث آبائهم وأجدادهم جزءاً من التنمية والتطور، من خلال دمج ذلك الموروث مع الناس وطبيعة حياتهم ولتصبح المواقع التراثية مثابة حدائق للترويح عن النفس وجزء من برنامج الناس المعيشي، فقد نجحوا حتى في تحقيق المكسب المادي من خلال زيارات الناس والسياح.

والذي نحتاجه وتعتبر من أولى الخطوات نحو مثل هذا التوجه هو العمل على تخريج فتيات وشباب مؤهلين علمياً ويملكون المعرفة ويعرفون دورهم ورسالتهم لحماية تراثنا.

Email