تجاهل التراث.. معرفة ناقصة ونمو للخرافة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يتبادر للذهن تساؤل كبير وعجيب، كلما أمعنا التفكير في رحلة الإنسانية الأزلية، وتعمقنا في عصورها القديمة وسنواتها الضاربة في التاريخ، تساؤل يدور حول هذا الكم الهائل من المخترعات والمبتكرات والعلوم المتنوعة والمعارف المكتسبة.

والتي الكثير منها نتاج تراكمات من التجارب والتطوير المتتالي حتى وصولها للكمال في خدمة الناس. كيف أن الإنسان لم يوفق في حفظ الكثير من إرثه وإنجازاته؟!

فهناك اعتقاد على نطاق واسع أن الذي وصلنا وبات بين أيدينا اليوم من كل هذا الكم الإنتاجي سواء في مجال العلوم والمخترعات أم حتى الاكتشافات وغيرها شحيح مقارنة بما أنتجه الإنسان منذ عصور سحيقة مروراً بالتجمعات الأولى ثم وصولاً للمدن فقيام الحضارات والأمم،.

كما لا يمكن فهم كيف تمكنت أمم من التميز والتقدم في مجالات عدة كالبناء والتشييد بل وفي بعض الجوانب الطبية، فضلاً عن اختراع وسائل للصيد البحري أو مطاردة الفرائس في الغابات، ومن ثم انهيار هذه الأمة واختفاء مصادر قوتها والأدوات التي استخدمتها، وجميعنا يعلم على سبيل المثال الأهرامات في الحضارة الفرعونية.

حيث توجد نظريات عدة في الكيفية التي تم بها بناؤها، ولا شيء مؤكد في هذا الإطار، أيضاً حضارات كالإغريق واليونان وغيرهما، حيث كانت تستخدم أعشاباً ومشروبات يتم تصنيعها من أوراق أشجار معروفة لديهم لمعالجة آلام البطن والتخفيف من الصداع ومعالجة الكسور، ولسعات الزواحف، وغيرها كثير، وجميعها وسائل علاجية لم تنقل إلينا كاملة، ومضى عمر طويل حتى عرفنا الكيفية التي تعد فيها هذه الأدوية، بمعنى كنا نقرأ في تاريخ أمة من الأمم فنجد أن المعالج الفلاني قدم مشروباً لأحد المرضى فتم شفاؤه، أو قصة تقول إن مجذوماً كان على وشك الوفاة وصف له أحد المعالجين بعض الأعشاب، وبعد أن استخدمها لفترة من الزمن بدأت صحته تتحسن، لكننا لا نجد وصفاً لهذه الأدوية والأعشاب، فهل هي خرافات أم أساطير يتم نسجها لإبلاغ الأمم الأخرى أنهم أكثر تفوقاً وتقدماً؟ لا أحد يعلم. 


لكن من المؤكد أن الخرافات والأساطير كانت مهيمنة على تفكير وخيال وحياة الإنسان الأول بل وحتى إنسان اليوم في بعض الأرجاء، وجميعنا يعلم أن الخرافة تتعارض تماماً مع العلم، فالمجتمع الذي تنتشر فيه العلوم تنهزم فيه مباشرة الخرافة وتضمحل، أما المجتمعات الجاهلة فهي تغذي قصورها وتواضع معرفتها بالخرافات التي لا يمكن أن تبنى بواسطتها حضارة أو تقدم.

في كتابه، الإنسان الحائر بين العلم والخرافة، تحدث الدكتور عبد المحسن صالح، عن هذا الجانب، فقال: «إن الدارس لنشأة المجتمعات البشرية، وأنماط سلوكها، وضروب أفكارها، سوف يضع يديه على حصيلة هائلة من الأفكار الغريبة، والتقاليد المثيرة، ومعظمها – بلا شك – قد نبع من تفاعل الإنسان مع البيئة الطبيعية التي يعيش فيها... فلقد رأى الإنسان القديم مثلاً من ظواهر الطبيعة أموراً حيرته أشد حيرة، فأثارت مخاوفه، وشحذت خياله، ومن ثم فقد بدأ في استنباط تفسيرات تتلاءم وإدراكه البدائي أو البسيط، ومن هذه التفسيرات الخاطئة للظواهر الكائنة، نبتت الخرافات، وترعرعت الخزعبلات، وانتشرت الأساطير في كل المجتمعات!».

نعم لسنا بحاجة للخرافات لتغذي أي نقص نعاني منه، ولنجعل أحلامنا فعالة مفيدة، ولنبني بواسطتها جسراً للمستقبل ونكون مفيدين منتجين لمجتمعاتنا، وغني عن القول إن أي أمة تخفي وتدمر إنجازاتها وتلغي ذاكرتها وتهدم إرثها أمة أنانية لا تتمتع بالحس الإنساني والبصيرة لتترك للأجيال التالية ضوءاً حقيقياً من الماضي لعله يرشد وينير دروب الحاضر والمستقبل، ويساعد في البناء ورخاء الإنسان، لذا نحن أمة تحب الماضي وتراثها وتبشر به، ولكن بعين حادة على المستقبل وقلب مطمئن محب للحاضر.

إن اهتمامنا بالتراث هو في الحقيقة واجب إنساني تفرضه القيم والمبادئ، فمن حق الأجيال القادمة أن تعرف كل شيء عن تاريخ الأجداد، وهو أيضاً تصحيح لخطأ الإنسانية اقترفته مراراً وتكراراً عندما حاولت أمم وشعوب تجاهل ماضيها فباتت تعيش الحضارة مستجدية تاريخ الأمم الأخرى.

التراث بالنسبة لنا ليس ماضياً انتهى، بقدر ما هو وقود لحاضر جميل ومستقبل واعد لنا وللأبناء.

Email