التطور الذي يقاس بالموسيقى!!

ت + ت - الحجم الطبيعي

عند تراجع أي أمة من أمم الأرض عن موقعها الريادي والحضاري تجدها تبعاً لهذه الحالة تفرط في مكتسباتها من المخترعات وعلومها الإنسانية وتتخلى عن منجزات تستحق المحافظة عليها، والغريب أن مثل هذه المنجزات والتي يفترض أن تباهي بأنها مدونة ومسجلة باسمها، تجد أنه يظهر من يحاربها ويعدها من المحرمات ويقاوم أي تطور فيها، ولعل هذه واحدة من أهم علامات التراجع الحضاري والانهيار والنكوص عن تبني القيم الإنسانية ونشرها، وهي حالة من حالات الخمول، لكن لا يفترض أن تمتد لتصل إلى شهر سلاح العداوة والمحاربة.

أضرب مثالاً بالموسيقى والتي كانت تحظى بعناية واهتمام وتطور لدى الإنسان العربي منذ العصور الغابرة من تاريخ الأمة العربية، حيث وجد أقدم أثر يدل على وجود الموسيقى لدى العرب، وقد كان عبارة عن نقوش في العراق ــ بانيبال ــ يرجع تاريخها إلى القرن السابع قبل الميلاد، إذ يذكر أن المستخدمين العرب الذين كانوا يعملون عند الآشوريين، كانوا يقضون أوقاتهم في الغناء والموسيقى، وفي عصر لاحق من عصور النهضة العربية، حيث يذكرنا الوجود العربي في الأندلس بالموشحات الأندلسية الشهيرة، والتي كان لها أثر واضح على الموسيقى الغربية بل وعلى هذا الفن في كافة أرجاء العالم. 

غني عن القول إن الوضع اليوم متردٍ، في مجال الإبداع الموسيقي وتقديم مقطوعات ومعزوفات خلابة ومبدعة، فكل الذي يأتي إلينا ونسمعه ويؤثر في وجداننا هو من خارج الوطن العربي. استدعيت هذه الكلمات وأنا أقرأ عن البروفسور الألماني إيكارت ألتنمولر، وهو أخصائي العلاج بالموسيقى، في كلية الموسيقى والمسرح والإعلام بمدينة هانوفر الألمانية حيث قال: «إن الموسيقى يمكن أن تساعد على علاج الآثار الناجمة عن الإصابة بالسكتة الدماغية، كفقدان الذاكرة والاضطرابات اللغوية، وظواهر الشلل، إذ تعمل الموسيقى، سواء من خلال عزفها أو الاستماع إليها أو الغناء على أنغامها، على معالجة أماكن متشعبة للغاية داخل المخ. وإن الاستماع لأي مقطوعة موسيقية صغيرة يعمل على تكوين شبكة مترابطة داخل المخ، حيث غالباً ما يكون محتوى أي مقطوعة موسيقية راسخاً للغاية داخل المخ، لأنها ترتبط غالباً بمشاعر قوية عاشها المريض، وأن الاستماع إلى إحدى الأغاني المفضلة للمريض منذ فترة شبابه يمكن أن يساعده على استحضار بعض أجزاء من الذاكرة أو استرجاع ذاكرته بأكملها، فترديد الأغنية المفضلة يُمكن أن يُساعد على علاج هذا الاضطرابات اللغوية، حيث يتمتع الغناء بتأثير إيجابي في وظائف اللغة الموجودة في النصف الأيمن من المخ منذ الطفولة المبكرة.

أما مرضى السكتة الدماغية، الذين لم يعد لديهم القدرة على تحريك أصابعهم، فينصحهم البروفيسور ألتنمولر بتدريب قدراتهم الحركية من خلال العزف على إحدى الآلات الموسيقية. لا أعلم لماذا يقوم البعض بمعاداة بعض الفنون، كما لا أفهم كيف يمكن أن يسوقوا حججاً وبراهين على أن هذا المنع والإقصاء هو لحماية المجتمع وفضيلته، وبالتالي نسمح لهم بالتسبب في إقصاء وانهيار فن مؤثر وخلاب يفيد ولا يضر ويحلق بالفكر ويريح الذهن والعقل، كيف نسمح لمثل هذه الأصوات النشاز بالتعالي وتكون هي الفصل في واحدة من أهم المنجزات البشرية على مر التاريخ. 

ما يميز الموسيقى أنها اللغة التي يمكن لجميع أمم الأرض على مختلف ألسنتها فهمها وتفسيرها، والجميل أن هذا الفهم قد يكون متنوعاً تماماً كأثرها في النفس الإنسانية، لكن هذا الأثر دوماً إيجابي وخلاب. 

تؤلمني هذه الحالة العربية وتدهورها في هذا المجال.. قال الحكيم كونفوشيوس: «إذا أردت أن تعرف مبلغ حظ أي بلد من الحضارة والمدنية، فاستمع إلى موسيقاه».

Email