المعرفة المشاعة بين الماضي والحاضر

ت + ت - الحجم الطبيعي

الإنسان مدين للمعرفة بالكثير من الفضل، إذا لم يكن الفضل كله، ومن الطبيعي أن تكون هذه المعارف مماثلة وشبيهة بالكنز في قيمته وشحه وندرته، لأن من يقع على المعرفة يتميز ويتفوق.

في عصور سحيقة، كان الإنسان يحصل على المعارف بشق الأنفس، بل من أجل تعلمها كان يبذل الغالي والنفيس، وفي كثير من الأحيان يفقد حياته، نتيجة لسعيه للحصول عليها، والذي أشير له هنا بالمعرفة، هي ببساطة متناهية، كل شيء نعتمد عليه في حياتنا اليوم، رغم أن الكثير من هذه الجوانب الحياتية بديهية لنا، إلا أن الحصول عليها ومعرفتها كان مكلفاً جداً، على سبيل المثال لا الحصر، نحن نستخدم النار، لكننا نجهل كيف عرف الإنسان النار نفسها؟ وكيف اكتشفها؟ وتالياً، لا نعرف كيف قام هذا الإنسان بشواء اللحم لأول مرة؟ وكيف كانت البداية وما قصتها؟.

قد يدهش البعض من القراء أن العلماء وضعوا عدة نظريات تتعلق باكتشاف النار، منها حرائق الغابات، وفي تلك الحقبة، كان الإنسان البدائي يذهب لأخذ النار بواسطة جذع من الشجر مشتعل، ويعمل على أن يبقى، حيث يقوم كل فترة بإشعال جذع آخر، وهكذا كان يحافظ على اللهب متواصل الاشتعال أكبر قدر من الوقت، ولعل من هذه الجزئية، نبعت فكرة الشعلة الأوليمبية، حيث يركض بهذه الشعلة شخص، وخلال مسيرته، يقوم بتوزيع النار على كل من يلتقي، والمهم أن تظل متقدة ولا تنطفئ.

وبالمثل شواء اللحم، حيث كان الإنسان الأول يأكل اللحم دون طهي، ولكنه عندما كان يعود للغابة بعد هروبه من شدة اللهب، وبعد خمود النار، كان يجد البعض من الحيوانات، وقد حرقت تماماً، وكانت تنبعث منها رائحة الشواء، فبدأ في تذوق لحمها الذي شوي من النار، ومن هنا استحسن المذاق، واكتشف أنه ألذ وأفضل له، فبدأ في شواء اللحم بانتظام، وطوّر المهارات في هذا المجال.

وكعادة الإنسان دوماً، حيث يملك العقل الذي ميزه به الله، فلم يتوقف، فقد عرف في ما بعد كيف يشعل النار لوحده، دون أن ينتظر البرق لضرب الغابات، أو انتظار حرارة الصيف الساخن. هذه واحدة من النظريات، وهناك آراء علمية أخرى.

في هذا السياق من التطور المعرفي البشري، مثال آخر، يتعلق باستخدام السكاكين في قطع اللحوم والفواكه، ولكننا لا نعلم كيف كانت البداية، وأيضاً نستخدم الملعقة، ونرتشف بواسطتها الحساء الساخن، ولكننا نجهل قصتها، وكيف ابتكرت، وكيف تطورت، بل حتى الملابس التي نرتديها اليوم، نجهل مسيرتها الطويلة، وكيف تطورت من أزمان سحيقة، حيث يتم ارتداء جلود الحيوانات بعشوائية، وكيفما اتفق، ثم حدث تطور، وهو قص الجلد، ووضع خيط لشده على خصر من يرتديه، ثم تطور آخر، وهو الخياطة الكاملة، ليصبح ارتداؤه أسهل وأكثر مرونة، وعلى المقاس.

وتعاقب التطوير جيلاً بعد آخر، وكل محطة كان يحدث فيها تحديث وابتكار، ومميزات وخصال جديدة.

هذه جميعها تسمى معرفة، التي تولد وتحضر كشرارة ووهج، ثم يتمسك بها الإنسان، ويقوم بالعمل على تطويرها باستمرار، وتتداولها الأجيال جيلاً وراء الآخر.

لذا، عندما يقال، بأن هناك جسراً متيناً وقوياً بين الماضي والحاضر والمستقبل، فهذا بديهي، لأنه لولا البدايات الأولى الضاربة العمق في الزمن، لما تمكن الإنسان من التطور والوصول لما هو عليه اليوم، البعض يرتكبون خطأ جسيماً، برفض الماضي والتنكر له، لأن المعرفة بدأت من هناك، ولتطويرها ونموها مرت بأزمان مختلفة، حتى وصلتنا، ولم يكن ليكتب لها الوصول لنا، لو أن الأجداد دمروها وتنكروا للغد.
المطلوب أن تكون نظرتنا علمية ومهنية، وأن نفهم طريقة المعرفة ونموها وانتشارها.

Email