المعرفة.. أمّ المعارك

ت + ت - الحجم الطبيعي

جاء في تقارير رسمية تونسية أن مليوني مواطن يعيشون حالة أمية، وهي نسبة مرتفعة جداً.

وقد لا تغطي العدد الإجمالي للأميين في تونس إذا تجاوزنا المعايير التقليدية للأمية، أي الجهل بالقراءة والكتابة، لنأخذ في الاعتبار المعايير المستحدثة، بما فيها الجهل باللغات والتكنولوجيا الحديثة، وتشير تقارير مختلفة إلى أن المدارس التونسية تعرف 100 ألف حالة انقطاع عن الدراسة كل سنة، وهو ما سيفاقم أيضاً نسبة الأميين على المدى المتوسط والبعيد.

وأبدت السلطات التونسية حرصاً كبيراً على اتخاذ الإجراءات الضرورية للتصدي لهذه الكارثة المجتمعية، التي تهدد بالفعل مستقبل البلاد وتجعل من إمكانية النهوض الاقتصادي والاجتماعي والحضاري احتمالاً صعب التحقيق.

ولا بد من الاعتراف بأن اتخاذ إجراءات مهما كانت أهميتها قد يحد من حجم الظاهرة، ولكنه لا يقضي عليها، ذلك أن تشخيص هذا الداء يؤكد أن التعليم والمنظومة التعليمية هما حجر الزاوية في فهم أسباب الحصيلة السلبية، التي تعرفها تونس في هذا الخصوص.

والتي غيرت في العمق التركيبة المجتمعية، لجهة أن تدني المنظومة التعليمية وتوقف المدرسة على لعب دور المصعد الاجتماعي أسهم في تآكل الطبقة الاجتماعية الوسطى، التي مثلت على مدى أحقاب ضمانة أساسية لمجتمع تونسي حديث ومفتوح على ثقافات الآخرين وبعيداً عن نزعات التطرف والإرهاب ومثالاً متفرداً يُحتذى.

وفي قلب المنظومة التعليمية تأتي مكانة المعرفة، فمنذ أن كفت المعرفة أن تكون هدفاً في حد ذاتها، وطغت قيمة المال على المجتمع فقدت تونس ما مكنها من التميز والتفرد في محيطها الإقليمي والحضاري.

وعلى عكس الإرادة السياسية، التي قادت الزعيم التاريخي الحبيب بورقيبة، الذي راهن على تنمية القدرات المعرفية للتونسيين، من خلال الاستثمار في التعليم، فإن عشرية الخراب، التي قادتها حركة النهضة الإخوانية عملت على تدمير مقومات تفرد المجتمع التونسي، وحاولت بشتى الطرق مواصلة نهج تهميش التعليم والمنظومة التعليمية، واستثمرت الكثير في خلق مناخات جهل بدلاً من تركيز أسس مجتمع المعرفة.

ولا بد من التذكير في هذا الخصوص أن عملية التدمير الممنهج للمنظومة التعليمية بدأ في النصف الثاني من حكم الرئيس التونسي الراحل زين العابدين علي، حيث تم إجهاض مشروع إصلاح التعليم، الذي انطلق به في بداية حكمه نهاية تسعينيات القرن الماضي، وهو مشروع إصلاحي يضمن تحقيق الحد الأدنى من التكوين التعليمي والمعرفي، ويفتح باب التميز للمتفوقين.

ويُعتقد أن الانحراف بالمسار الإصلاحي بدأ عندما عم الاقتناع بفكرة شعبوية، وهي أن مبدأ المساواة بين التونسيين وديمقراطية التعليم يقتضيان ضمان النجاح للجميع، وهو ما أدى بالتدريج إلى تعميم الرداءة وتدني المستوى التعليمي، وتدهور المدرسة العمومية، وتغييب قيمتي التفوق والإبداع.

وفي غمرة المد الشعبوي نسي الجميع أن دور الدولة والمجتمع هو توفير المساواة في ظروف التعليم من بنية أساسية وإمكانات مادية وبشرية على نفس الدرجة من الجودة والكفاءة، ولكن ضمان النجاح فضلاً عن التألق هو متعلق باجتهاد الفرد وليس شرطاً من شروط المساواة والديمقراطية.

وتركيز مجتمع المعرفة والإبداع يحتاج إلى قرار سياسي استثنائي، وإن وضع الخطط والاستراتيجيات للنهوض بقطاع التعليم هو أيضاً قرار سياسي، وإن توفير الإمكانات لذلك وخلق الأطر المجتمعية والاقتصادية، التي تسهل استيعاب الكفاءات المتخرجة من المدارس الوطنية هو كذلك قرار سياسي.

إن الرهان على التعليم والمعرفة والإبداع والبحث العلمي هو رهان الدول، التي تريد ضمان الديمومة والتميز لشعوبها ومجتمعاتها، ومن أجل هذه الأهداف السامية تضع هذه الدول الاستراتيجيات الضرورية والخطط الاتصالية اللازمة للتوعية ولتسويق الصورة، التي تحفز على الإبداع والتفوق.

وإن معيار تقدم المجتمعات هو من المكانة التي يوليها للتعليم والمعرفة وقدرة منظومته التعليمية على خلق شروط النجاح والتميز والإبداع، لأن معركة المعرفة والإبداع هي أم المعارك، وإن أقصر الطرق للاندثار المجتمعي والحضاري هو السعي لإشاعة الجهل والخرافة لغاية التمكن من المجتمع والسطو عليه.

Email