التوجه الإيجابي نحو التراث البشري

ت + ت - الحجم الطبيعي

الكثير من المفاهيم الجميلة في حياتنا، يحسبها البعض جديدة، أو أنها طارئة وجاءت وفق علوم حديثة، أو أنها كانت من إفرازات الحضارة الحالية، مثل مفهوم الإيجابية، ولكن الحقيقة التي تأتي من التاريخ ومن عمق التراث، تعطي دلالات أخرى، مفادها أن الإيجابية تمت معايشتها كواقع، وسعى نحوها الإنسان بكل حماس وحيوية، بل إن الكثير من الموروث لم يكن ليصل إلى أيدينا اليوم لولا إيجابية إنسان تلك الحقبة الماضية.

هذا يقودنا نحو نقطة محورية وجوهرية أخرى تتعلق بالمفهوم، وكيف يتكون؟ وكيف يتم تأسيسه ووضع إطار له؟ وبمثل هذه الأطر تتم دراسته والتعاطي معه، حيث إن كثيراً من المفاهيم الحياتية التي نرددها في يومنا، مثل الابتكار، الإيجابية، الإلهام، ونحوها، وإن لم تظهر بمثل هذا التحديد وتحمل تلك الكلمات أو وفق نظرة علمية، إلا أنها كانت موجودة في حقب بشرية مختلفة، موجودة في المعيشة اليومية لإنسان تلك الحقبة، بمعنى أن الفعل الإيجابي والعمل على الابتكار والتخيل والإلهام، ونحوها جميعها ممارسات قبل أن تكون علماً ذا تعدد وأنواع وتعاريف ومدارس مختلفة، كانت نتاج الإنسان القديم وبأدواته المتواضعة.

حاجة الإنسان لطالما كانت خير من دفع ووجه البشرية برمتها نحو الكشوف الأكثر فائدة والأعظم أثراً على مسيرة الحضارة الإنسانية، لذا نلاحظ أن كثيراً من العلوم، في زماننا وإن كانت تعتبر حديثة إلا أن لها امتداداً تاريخياً دون شك.

يمكن مراجعة كتب التراث والسير والتاريخ، لتجد فيها الكثير جداً من القصص الملهمة، والأحداث والمواقف الإيجابية، لتجد ذكاء كانت خطوته الأولى التخيل ثم الإلهام، فالعمل لترجمة كل هذه الأفكار لتكون واقعاً حياتياً، ونحصل عليها كمخترعات ومبتكرات، ما بدأت ولا تحولت لواقع إلا لأنها بدأت فكرة وخيالاً في عقول ماضية، وبعد أن تم نقل جزء منها للواقع، ثم توالت التطويرات والإضافات، حتى وصلت لمرحلة التكامل والفائدة القصوى، ومثل هذه العملية متواصلة حتى في يومنا هذا، ويمكن رصدها في عدة ميادين وحقول.

كمثال توقف عند قصص تتعلق بمخترعات حديثة وتعتبر رمز الحضارة الحديثة، كاختراع الطائرة، ومسيرة الإنسان القديم معها وصولاً لعصرنا، ولا زالت التحديثات في هذا الحقل مستمرة وكل يوم يتم إدخال مبتكرات وأجهزة أكثر حداثة وتطوراً حتى في حقل أكثر ملاصقة للإنسان وهو الزراعة، حيث تجاوز الإنسان الطرق التقليدية في السقي والحرث والقلع، وتمكن من إدخال معدات وأدوات لتساعده وتزيد من المحصول والثمار، ومثلها صيد الحيوانات والأسماك، فقد تطور من ملاحقتها إلى استئناسها وتربيتها ليس هذا وحسب، بل طور حتى كيفية إنتاج غذائها.

الذي أريد الوصول له، أن كثيراً من مفاهيمنا الحياتية الحديثة أو التي ينظر لها بأنها حديثة، ما هي إلا نتاج لتراكمات ماضية، بمعنى أن لها امتداداً تاريخياً، وكثير منها لها عمق في تراث الشعوب والمجتمعات، ورافقت مسيرة الإنسان، ولكن الذي حدث تطويرها أو تأصيلها ووضع مسميات علمية لها.

وهذا يقودنا لنتيجة واضحة ولا مجال لإنكارها أو التجديف ضدها، وهي أن الانفصال عن التراث، أو إهمال دراسته، هو بمثابة فصل وقطع لإرث إنساني عظيم ليس في مجال حياتي واحد وحسب، بل في كثير من الجوانب التي تتقاطع وتمس حياة اليوم.

إن الإيجابية واحد من المفاهيم الذي نظر لها كونها حديثة وطارئة وعلماً جديداً، وإذا سلمنا بهذه النقطة، فهذا لا يعني أبداً عدم الإيجابية في التعامل مع الكنز المعرفي الموجود في تراثنا وتراث أي حضارة بشرية.

Email