الاتصال الذي بنى الحضارات الإنسانية

ت + ت - الحجم الطبيعي

اهتم الإنسان منذ القدم بالاتصال، حتى وإن كان كمفهوم وعلم لم يظهر إلا في العصر الحديث، إلا أنه كان موجوداً في مفاصل حياتية واضحة المعالم، ولهذه النزعة جانبها الوراثي والجيني المتأصل في وجدان الإنسان، ونؤكده ليس من الجانب الطبي الوراثي، بل من جانب العلوم الاجتماعية، فبالملاحظة والبحث والتقصي والمراقبة على امتداد سنوات طويلة جداً، توصل العلماء إلى أن الإنسان كائن اجتماعي، وغني عن القول إنه يعيش على كوكب الأرض أيضاً كائنات أخرى اجتماعية، مثل بعض من الحيوانات، وهي تعيش في تجمعات، بل وتصطاد فرائسها بشكل جماعي، بل وتوصلت إلى ابتكار طرق توزع فيها المهام بين القطيع، حيث لاحظ العلماء الدارسون لسلوك الحيوانات، أن الأسود والذئاب وغيرها، توصلت لتفاهم في ما بينها بأن يبقى عدد من القطيع لحراسة صغارهم، ويحظون بوقت للمشاركة في الفرائس.

لكن الإنسان تميز بمهارته في استخدام الاتصال، وطوّره ليعبّر عن أفكاره وخططه وتبادل الأفكار، ولذا، اخترع النقوش وحفر الرموز في الكهوف، ثم تعلم اللغة، وصولاً إلى الكتابة، فاكتشاف الورق، وتطورات بشرية متتالية في هذا السياق، على فترات زمنية كبيرة في عمر الإنسانية بأسرها.

لكن ما الأهمية التي تجعل للاتصال كل هذا الاحتفاء طوال عصور متتالية من عمر البشرية، عالم الاتصال ولبر شرام، وضع في عام 1977 م تعريفاً دقيقاً للاتصال، قد يكون ملائماً لتسليط الضوء على أهميته للإنسان، حيث قال: «الاتصال هو المشاركة في المعرفة عن طريق استخدام رموز تحمل دلالات».

ولنتوقف ملياً عند جانبين في هذا التعريف، الأول يتعلق بمشاركة المعرفة، والثاني استخدام الرموز التي لها دلالات. فالمعرفة هي الهدف الأزلي الذي سعى إليه الإنسان، منذ أن كان يعيش في العصور الحجرية حتى يومنا، فمعرفة الإنسان الأول كيفية تحريك الصخور بواسطة العجلة، كانت نقلة هائلة في التفكير البشري، ومعرفة الزراعة جعلته يستقر، ويبني المنازل، وبالمعرفة تمكن من التغلب على الحيوانات التي كان يصطادها مرة، وتصطاده مرة أخرى، بل تمكن بالمعرفة من استئناس الكثير من الحيوانات، وتسخيرها لخدمته، كالكلاب والخيول والحمير وغيرها، واستخدم الرموز، فهو ينقش ويوثق كل معرفة يحصل عليها داخل كهوفه، حتى اكتشافه للكتابة، وهذه المعارف تنقلت من جيل للجيل التالي، الذي يطورها ويبني عليها المزيد من الخبرات والمعارف، فلولا التوثيق وحفظ المعارف، لما تطورت البشرية.

ومن خلال هذا الزخم المعرفي المتوارث منذ القدم، وحتى يومنا هذا، كانت تقوم الحضارات المتتالية، وتتطور وتتقدم، ثم تتلاشى، وتقوم أخرى مكانها، لتكمل المسيرة الإنسانية، لكن كل حضارة كانت تقوم على أفكار وتميز أفرادها، ومدى ما يملكونه من المعارف والعلوم، الفيلسوف الألماني جورج. ف هيغل، قال: «المجتمعات كالأفراد الذين ينقلون شعلة الحضارة من واحد إلى الآخر»، بل ذهب العالم أوزوالد سبنغلر، في كتابه انحدار الغرب، إلى أن الحضارة مثلها مثل الكائنات الحية (الإنسان)، تولد وتنضج وتزدهر ثم تموت.

وقد أكد على هذا الجانب أيضاً، المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، الذي قال في كتابه دراسة التاريخ: «إن الحضارات تقوم فقط حيث تتحدى البيئة الناس، وحينما يكون الناس على استعداد للاستجابة للتحدي. على سبيل المثال، فإن الجو الحار الجاف يجعل الأرض غير مناسبة للزراعة، ويمثل تحدياً للناس الذين يعيشون هناك، ويمكن أن يستجيب الناس لهذا التحدي، ببناء أنظمة ري لتحسين الأرض».

وإذا كان هناك من العلماء من يقول إن الحضارة تتكون من الاقتصاد وموارده، والسياسة وأنظمتها، والتقاليد الأخلاقية والمبادئ القويمة، ثم العلوم والفنون، فما هذه المكونات، إذا لم تكن من لب المعرفة الناتجة عن الاتصال.

في العصر الحديث، أخذ مفهوم الاتصال بُعداً كبيراً، وبات علماً يدرس بشكل منفصل عن باقي العلوم المعرفية، والسبب أنه عامل مهم في حياة الناس منذ القدم، ويؤكد الدارسون أن الاتصال ضرورة في بناء الحضارات وقيامها، بل وساهم في التنوع الثقافي الإنساني وغزارته، هذا على المستوى الاجتماعي والبشري بصفة عامة، أما على مستوى الفرد، فإننا نمارس الاتصال يومياً بطرق مختلفة ووسائل متنوعة، فوسائل التكنولوجيا الحديثة جميعها من وسائل الاتصال، والأجهزة الإعلامية، على مختلف توجهاتها، أيضاً وسيلة اتصال، بل إن الحوار بين شخصين اتصال، فبواسطته يتم بناء التعاون والمشاركة في الحياة بين الناس.

وغني عن القول إن الاتصال يستقطع مساحة كبيرة من وقت كل فرد منا، دون أن يشعر، وذلك إما خلال أعمالنا اليومية، أو حتى في منازلنا مع أسرنا أو غيرهم، والبعض من الدارسين في هذا المجال، يقدّر أن نسبة قد تصل إلى 90 % من وقت كل واحد منها، يمضيها في عملية الاتصال.

وللاتصال وظائف، حددها وأطّرها الدارسون في هذا المجال، ولكن من أهمها، الوظيفة الثقافية، والتي خلالها يتم نقل الإرث الثقافي من جيل إلى الأجيال التالية، بهدف المحافظة على الثقافة والهوية، أو المحافظة على المنجزات والمبتكرات التي تحققت، وهذه العملية تتم بواسطة الكتابة والتأليف والوصف، وتوضع في الكتب والمجلدات، وفي هذا العصر، أضيفت وسيلة جديدة للحفظ من الأرشفة الإلكترونية، إلى الـ «سي دي» والـ «فلاش ميموري»، وغيرها الكثير، وهناك الوظيفة التي تستهدف المحافظة على التراث الإنساني القديم، وتطوير ثقافة الناس بأهميته، وأهمية صونه للأجيال التالية.

ويبقى التأكيد على أنه بالرغم من حداثة العلوم التي تبحث في مجال الاتصال وتفرعه وتشعبه، وأنه بات مادة علمية دسمة في الصروح العلمية، إلا أنه قديم كقدم الإنسان على الأرض، فلنوثّق اتصالنا ببعض، من أجل مزيد من التفاهم، لتقوى حضارتنا وتنتشر معارفنا، وليكن اتصالنا مفتوحاً، ودون حدود أو عوائق، فالإنسانية تحتاج أن نفهم بعضنا البعض، بشكل واضح وسليم.

Email