الإبرة والقلم.. من الذي قال هناك فرق؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

ظللت أفكر في ثيمة العلاقة غير الحسية بين الخيط والإبرة من جانب، والكتابة والتأليف من جانب آخر، هذا التفكير قادني نحو رحلة عميقة في مجال الخياطة والتطريز، فقد وصلت في بحثي لمعرفة تاريخها، حيث وجدت أنها تعود لأكثر من عشرين ألف سنة من الماضي البعيد، حسب بعض المؤرخين وعلماء الآثار، وبسبب هذا التاريخ الموغل في القدم، بغض النظر عن مدى دقته، مرت هذه المهنة، التي تقوم على الإبرة والخيط، برحلة طويلة من التطوير، فيقال إن أول إبرة استخدمت للخياطة تم صناعتها من بقايا الحيوانات، وهم يقصدون عظامها أو بعض من قرونها، وأن الخيوط كانت تستخرج بشكل دقيق من عروق بعض الحيوانات.

يؤكد العلماء على صحة أقوالهم، بل وعلى دقة التواريخ التي يضعونها، من خلال كشوفهم ودراستهم للآثار التي وجدوها، مثل قبور المصريين أو الكهوف التي تم نحتها، وقد اكتشفت بعض الإبر التي تم صناعتها بشكل دقيق، وفي غاية من الذكاء من السمك، إما من عظامها أو أشواكها، في عصور لاحقة أو متقدمة، وليست غابرة أو ضاربة العمق في الزمن الماضي، وجدت أيضاً بعض الكشوف عند الهنود الحمر في أمريكا، أنهم استخدموا بعضاً من العظم الموجود في بعض الطيور لصناعة الإبرة، وأنهم استخدموها في خياطة ملابسهم، لتقيهم البرودة الشديدة في فصول الشتاء، وكانت الخيوط المستخدمة في الحياكة تخرج من عصب الحيوانات، وكانت تتميز بالقوة، رغم رقتها ونحافتها الشديدة جداً.

أما إذا انتقلنا نحو الكتابة والقراءة، وهي التي قادت نحو الحاجة نحو التأليف، فلن تتعب أو تجد مشقة وأنت تقرأ تاريخاً ضارب العمق في تاريخ البشرية، بل إنها نشأت من لب وعمق الحاجة الإنسانية، وهكذا دوماً نجد كل اكتشاف بشري يتم تطويره والاهتمام به، هو في الحقيقة نتاج للحاجة الماسة، لذا، تطور منذ وقت مبكر لدى الإنسان حس التدوين والكتابة والرسم، وبالتالي، طورت أيضاً الأدوات التي تساعده في هذه المهمة الحيوية.

إذن، نحن أمام وجه من أوجه الشبه بين الإبرة والخيط، وبين الكتابة والتأليف، وهي الحاجة التي قادت لتطوير كل حقل من هذه الحقول، لكنني من جانب آخر، أجد وجهاً للشبه أعظم وأكثر دقة، وهو في الأداة نفسها، فلدينا الإبرة والخيط والقماش، وعلى الجانب الآخر، لدينا القلم والحبر والورقة، فهنا تشابه، حتى في التقسيم العددي، ثلاث أدوات أمام ثلاث أدوات، وهذه الأدوات جميعها مرت بتاريخ عظيم موغل في الزمن، ورافقت الإنسان في التطور، يقابل الإبرة القلم، ويقابل الخيط الحبر، ويقابل القماش الورق، وفي كل واحد من هذه الأدوات تاريخ مستقل وكبير، وفي نفس اللحظة، جاءت جميعها لحاجة ماسة، لا يمكن الاستغناء عنها، لكن أيضاً هناك وجه شبه بليغ وذو معنى دفين وجميل، وهو أن جميع من استخدم هذه الأدوات، هم الأقل حظاً في الحياة، بمعنى أنها أدوات لمن هو غير مترف، لمن كان يكافح من أجل لقمة العيش، لمن هو في أمسّ الحاجة للطعام والقوت.

وأيضاً هناك وجه شبه آخر له معنى بليغ، أن جميع هذه الأدوات كانت مشاعة، فلم تكن حكراً على أحد، أو لطبقة دون الأخرى، بل إنها كانت مشاعة، تعطي من يعطيها الوقت والتدريب والصبر، وهذه الأدوات أيضاً جمعت الجميع تحتها وتحت مظلتها، الفقراء والأغنياء، على حد سواء، وهي أيضاً تقدم ثمارها للجميع، دون تمييز أو تفضيل، ومرة أخرى، من يتدرب ويتعلم على أسرارها وعمقها، فهو في نهاية المطاف من سينجح ويبتكر... الإبرة والخيط والقماش، والقلم والحبر والورق، من الذي قال إن هناك فرقاً بينهم؟!

Email