عندما يستحيل تحقيق الأهداف

ت + ت - الحجم الطبيعي

دعا بابا الفاتيكان عشية عيد الميلاد إلى «وقف فوري لإطلاق النار في غزة، والبدء في مفاوضات سلام دائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين»، وذلك حقناً لدماء المدنيين، مضيفاً أنه و«قبل كل شيء يجب احترام حقوق الإنسان في غزة»، ومشدداً على ضرورة «فتح ممرات إنسانية لمساعدة المحاصرين في القطاع، كما جدد دعوته للإفراج عن الرهائن الإسرائيليين، الذين تحتجزهم حركة حماس».

وليست المرة الأولى، التي ينتقد فيها بابا الفاتيكان العدوان الإسرائيلي على غزة والضفة الغربية، وقد جاءت تصريحاته الأخيرة بعد قتل الجيش الإسرائيلي لامرأتين مسيحيتين لجأتا إلى كنيسة بغزة، وأثارت هذه التصريحات وسابقاتها سخط دولة الاحتلال.

والمأزق الكبير بالنسبة للإسرائيليين هو أن تصريحات بابا الفاتيكان لا تمثل الاستثناء، ونكاد لا نعثر على دولة واحدة في العالم قدمت مساندة لا مشروطة للعدوان على قطاع غزة والضفة الغربية، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية، التي تسعى جاهدة لتحصين إسرائيل ضد أي شكل من أشكال العقوبات الدولية، وهي لا تزال مصرة على تعطيل أي قرار أممي ملزم يطالب بالوقف الفوري لإطلاق النار، بدأت هي الأخرى وباعتراف جو بايدن تقدر أن مساندتها هذه عزلتها دولياً، فضلاً عن التململ، الذي أحدثته في صفوف الديمقراطيين، بما قد يؤثر على حظوظ بايدن في الاستحقاق الرئاسي المقبل.

ولا يزال بنيامين نتنياهو يؤكد أن العدوان لن يتوقف إلا بتحقيق إسرائيل لكل أهدافها وتحقيق «انتصار حاسم» بدءاً بـالقضاء على «حماس»، ومروراً بتحرير الرهائن، ووصولاً إلى ضمان عدم تكرار عملية «طوفان الأقصى»، وهو ما جدده في حديثه لجنود الاحتلال، خلال زيارة تطمين واستعراض إلى قطاع غزة الاثنين الماضي.

وتأتي تصريحات نتنياهو الجديدة بعد تصاعد وتيرة المطالبات الدولية بالوقف الفوري لإطلاق النار، وهي مطالبات تتقاطع مع مطالب داخل إسرائيل صادرة بالأساس عن بعض اليسار، وعن عائلات الرهائن، الذين تحتجزهم «حماس».

ولا يبدو أن أي طرف قابل أو بإمكانه الدفاع عن العدوان الإسرائيلي على القطاع والضفة الغربية، والتي تسبب في استشهاد أكثر من 20 ألفاً وعشرات آلاف الجرحى، وتشريد مليوني من سكان غزة، والتدمير الممنهج للمساكن ولكل مقومات الحياة فيها والبنية الصحية، وقطع المواد الدوائية والإغاثية، إضافة إلى حملات التقتيل والاعتقالات، التي يقوم بها جيش الاحتلال في الضفة الغربية، وإلى العمل الإجرامي الذي يقوم به المستوطنون بغطاء رسمي مكشوف، ومعلوم أن الهدف المعلن هو الانتهاء من غزة أولاً ثم الانصراف إلى الصفة.

والواضح أنه لم يعد هناك فيما يبدو أي طرف دولي وإقليمي بإمكانه السكوت عن سقوط 300 شهيد يومي، أغلبهم من الأطفال والنساء والمدنيين العزل، وهو الأمر الذي بدأ يسبب الكثير من الحرج لجميع الأطراف، الشيء الذي دفع إلى إعلان أكثر من مبادرة لتجاوز المأزق، الذي تردت فيه المنطقة وإسرائيل، ومن ذلك المبادرة المصرية، التي بادر نتنياهو برفضها ويتوقع المراقبون أن لا تحظى كذلك بموافقة حركة «حماس».

ومثلما أن لدولة الاحتلال أجندة ترتبط بالحد الأقصى، أي إنهاء العمل بقرارات الشرعية الدولية، والتصفية النهائية للقضية الفلسطينية، والتهجير القسري للفلسطينيين من قطاع غزة والضفة الغربية، وهو أمر لا يخفيه قادة إسرائيل، فإن لحركة «حماس» أجندتها هي الأخرى، والمطالبة بتحرير كامل فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر.

ومع وجود فوارق جوهرية ومبدئية بين رؤية الجلاد ورؤية الضحية، الذي يرزح تحت نير الاحتلال، فإن هذه الأهداف من الطرفين على اختلافها وتناقضها المعلن هي التي تمثل الأرضية الموضوعية للالتقاء الانتحاري بين الطرفين، وإطالة أمد العدوان الإسرائيلي واستمرار الاحتلال ومعاناة الشعب الفلسطيني، وهو وضع لا يمكن تجاوزه إلا بزوال الأضداد، كما أكدت ذلك شواهد التاريخ أو بالجنوح إلى السلام والقبول القسري بالاحتكام إلى القاعدة القانونية، التي تمثلها الشرعية الدولية على جورها في حق الفلسطينيين.

وكما أن الحرب أو العدوان هو مواصلة للسياسة بطرق أخرى فإن السلام واحتمال تحقيقه هو نتيجة منطقية لعدم تحقيق الأهداف العدوانية والحربية ميدانياً أو لاستحالة ذلك، وهو ما يفرض التعاطي مع المعطيات الواقعية حتى وإن كانت ضد أهوائنا ورغباتنا وقناعاتنا.

 

Email