ليس للعقول ثقوب

ت + ت - الحجم الطبيعي

من عجائب صنع الله الحواس الخمس المعروفة، وهي السمع والبصر والشم والتذوق واللمس. ولكل واحدة من هذه الحواس أداة خاصة بها، فأداة السمع هي الأذن، وأداة البصر هي العين، وأداة الشم هي الأنف، وأداة التذوق هي اللسان، وأداة اللمس هي اليد، ويقال إن أول حاسة استطاع الإنسان تطويرها هي حاسة اللمس.

يجمع هذه الحواس أنها لا يمكن أن تعمل بدون مساعدة الدماغ الذي يشكل مركز الجهاز العصبي، ويقع في صندوق مقفل به فتحات للعين والأذن والأنف والفم، حيث تكمن أربع من الحواس الرئيسية، لكنه لا يحتوي على فتحة أو ثقب للدماغ الذي يترجم الإشارات التي تحملها الألياف العصبية إليه ويحولها إلى طَعم أو رائحة أو صوت أو لون أو حرارة أو برودة أو ألم أو لذة أو غيرها.

هذه المفارقة العجيبة لفتت نظر البعض إلى أن الدماغ أو العقل المحفوظ في صندوق مغلق لا فتحات له، تجري ملايين المحاولات لاختراقه والتأثير فيه، وكثيراً ما تنجح هذه المحاولات التي تتم بهدف إعادة برمجته، ومسح بعض المفاهيم الراسخة فيه، وزرع مفاهيم أخرى ربما تكون مناقضة تماماً للمفاهيم التي كانت قبلها.

هذه العملية أطلق البعض عليها عملية «غسيل دماغ» أو «غسيل مخ» في بعض الأدبيات، وهو مصطلح أقرب ما يكون إلى الحقيقة، أو هو الحقيقة نفسها إذا نظرنا إلى «الدماغ» على أنه قماشة أو إسفنجة قابلة للاتساخ فيما لو تعرض لبعض الأفكار الخارجة عن الفطرة والمنطق السليم والقيم وقوانين الأخلاق المتعارف عليها، وعن التعاليم التي أتت بها الرسالات السماوية، وخلاصة تجارب الفلاسفة والمعلمين والأساتذة عبر العصور.

وقد جاء في الموسوعات والكتب أن مصطلح «غسل الدماغ» يندرج تحت مسميات مختلفة تحمل المفهوم نفسه مثل، إعادة التقويم، وبناء الأفكار، والتحويل والتحرير المذهبي الفكري، والإقناع الخفي، والتلقين المذهبي، وتغيير الاتجاهات.

كما جاء أن أول استخدام لهذا المصطلح في العصر الحديث جاء على يد الصحفي الأمريكي إدوارد هنتر، عندما استخدمه عنواناً لمقال نشره في صحيفة «أخبار ميامي» في شهر سبتمبر من عام 1950م، على أثر الحرب الكورية والتحول الملاحظ في طريقة تفكير الجنود الأمريكيين الذين وقعوا أسرى لدى الصين. وقد ترجم هنتر المصطلح عن الكلمة الصينية «هسي نو» التي تحمل المعنى نفسه، والمستخدمة للتعبير عن النظرية الصينية إصلاح الفكر، أو إعادة التشكيل الأيديولوجي.

أما عالم النفس الهولندي جوست ميرلو فقد استخدم مصطلح «قتل العقل» للتعبير عن عملية غسيل الدماغ، وهو أكثر خطورة، ذلك أن عملية الغسيل يمكن معاودتها لإعادة الدماغ إلى ما كان عليه قبل الغسيل وتنظيفه مما علق به من أفكار ومعتقدات، أما مصطلح «قتل العقل» فيحمل في طياته استحالة إعادته إلى ما كان عليه قبل العملية، لأنه ينتج عقلاً أو دماغاً جديداً لا علاقة له بالعقل أو الدماغ الذي تم قتله، ولا سبيل إلى إعادة إحيائه.

على المستوى الفردي نحن غالباً ما نتعرض في مراحل عدة من حياتنا إلى عمليات غسيل دماغ لإعادة تشكيل الأفكار والمعتقدات التي نؤمن بها، وهي عمليات تحدث باختيارنا حينا، ورغماً عنا غالباً، لكنها تؤدي في النهاية إلى إحداث تغيير من نوع ما في حياتنا. هذا على المستوى الفردي، وهو محدود التأثير، لكن الأخطر منه هو ما يحدث على المستوى الجماعي، عندما يتم استهداف أمة بكامل أفرادها.

يحاول الطبيب والمؤرخ الفرنسي «غوستاف لوبون» في كتابه الشهير «سيكولوجية الجماهير» أن يقدم تفسيراً لانفعالات الجماهير وردود أفعالها وهو يتحدث عن الخصائص النفسية للجماهير، وطبيعة المجموعات، ودوافع تحركاتها، والعوامل التي تؤثر فيها، ويقدم إجابات للعديد من الأسئلة المثارة حول التجمعات الجماهيرية، والخصائص العامة للجماهير، وهل هي عاقلة وواعية بالطبيعة أم أنها متهيجة وثائرة. ورغم أننا نعترف بأن صوت الجماهير مخلص وصادق غالباً، إلا أننا نقر بأنه عاطفي وعفوي ومندفع، ولهذا يسهل غسل أدمغة الجماهير وتغيير اتجاهاتها في أغلب الأحيان.

صحيح أنه ليس للعقول ثقوب، ولكن يمكن اختراقها بسهولة، وهذه عملية خطيرة ومشكلة كبرى.

Email