حفظ البيئة منهج رباني

ت + ت - الحجم الطبيعي

سخر الله تعالى للإنسان هذه الأرض وما عليها والكون وما فيها، لينتفع بهذه الموجودات كلها على أحسن وجه، وليستفيد من خيراتها بالطريقة المثلى، فيعيش هو والأجيال بعده حياةً آمنةً مستقرة لا خطر فيها ولا ضرر، كما قال تعالى: {ألم ‌تروا ‌أن ‌الله ‌سخر ‌لكم ‌ما ‌في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة}، وقال في الآية الأخرى: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}، أي خلقها لمنافعكم ومصالحكم وحاجاتكم، فاحمدوه على هذه النعم واشكروه، ومن تمام الشكر المحافظة على هذه النعم والخيرات، والعمل على بقائها واستدامتها، ومن أعظمها البيئة.

إن أول منطلق لتحقيق الفضائل البيئية الاعتراف للإنسان بمكانته بين هذه الموجودات، وما استحق بسبب ذلك من المسؤولية الملقاة على عاتقه تجاهها، فالإنسان ليس مجرد عنصر من عناصر البيئة، وإنما هو الكائن الأسمى في هذه الأرض، المكلف بعمارتها وصيانتها وحفظها من الفساد، قال تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان}، وهذه الأمانة التي حملها الإنسان هي أمانة التكليف وقبول الأوامر والنواهي، وأنه إن قام بها أثيب، وإن تركها عوقب، وهذه المسؤولية التي تحملها تحتم عليه فعل الخيرات واجتناب المضرات على كافة المستويات، بما في ذلك حسن استخدام موارد البيئة، والبحث عن وسائل ديمومتها واستدامتها، ومنع الإضرار بها بأي وجه كان.

وتأكيداً على هذا المنهج الرباني في حفظ البيئة جاء النهي عن الإفساد والإضرار والإسراف، تحقيقاً لمبدأ استدامة هذه النعم وحفظ ديمومتها، قال سبحانه: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} وهذا النهي يشمل جميع أنواع الإفساد المعنوي والمادي، فيدخل فيه هدر المياه وتغوير الأنهار وقطع الأشجار وإتلاف الثمار وتضييع الأموال، كما نص على ذلك العلماء، ومن أعظم ما يدخل فيه الإفساد بالتعدي على حقوق الله تعالى وحقوق عباده، من الكفر والمعصية والظلم وسفك الدماء، فإن ذلك سبب لمحق البركة، وقلة الخير، كما أن فقدان الإنسان بوصلة العمل الصالح وانجرافه في متاهات الظلم والعدوان يؤدي به إلى الاعتداء على البيئة والقتل والتخريب، وقد قال الله تعالى في ذم ذلك: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} والحرث الزرع، والنسل ولد كل دابة، قال المفسرون: نزلت هذه الآية في رجل أظهر الإسلام وهو يبطن بغضه، ومر بزرع لقوم وحمار لهم، فأحرق الزرع، وقتل الحمار، فأنزل الله هذه الآية الكريمة تنديداً بفعل هذا الرجل، وبين أنه لا يرضى بالفساد، وأن تخريب الزروع وقتل الحيوانات من غير مصلحة أمر مبغوض إليه.

ومن مظاهر هذا المنهج الرباني النهي عن الإسراف والتبذير، وعدم المبالغة في استخدام الموارد البيئية دون حاجة، ومن أعظم ذلك المياه والغذاء، وكذلك موارد الطاقة في عصرنا الحديث، وقد رسخ النبي صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ في نفوس الصحابة رضي الله عنهم، فنهاهم عن الإسراف في استعمال المياه ولو في العبادات، ولو كان الماء فائضاً كثيراً، لأن الإسراف هو في حد ذاته مذموم، سواء كان المورد البيئي قليلاً أو كثيراً، قال تعالى: {ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين}، ومر النبي صلى الله عليه وسلم بسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وهو يتوضأ، فقال: «ما هذا السرف» فقال: أفي الوضوء إسراف؟ قال: «نعم، وإن كنت على نهر جارٍ»، فالاستخدام على قدر الحاجة، وهذه الموارد نعم عظيمة يجب الحفاظ على استدامتها.

ومن أهم صور تحقيق استدامة البيئة المشاركة في تنميتها وزيادة خيراتها واتساع رقعتها الخضراء، كما جاء في الحديث: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها»، والمشاركة بالأفكار والابتكارات والمبادرات والأعمال التطوعية التي تسهم في حفظ البيئة واستدامتها.

وإذا ترسخ هذا الوعي المجتمعي في نفس كل فرد فإنه يكون شريكاً فاعلاً في المحافظة على موارد البيئة مع الدول والحكومات والمنظمات، ويسارع إلى الوقوف مع قيادته الحكيمة في القرارات والاستراتيجيات التي تتخذها لحفظ البيئة وتحقيق الاستدامة.

Email