خطورة القناعات

ت + ت - الحجم الطبيعي

بنظرة سريعة نحو كافة تفاصيل حياتنا من الصغيرة حتى الكبيرة، ومن داخل الأسرة التي تتكون من فردين أو ثلاثة، وصولاً للمجتمع بأسره أو بالعلاقات بين الأمم والشعوب، تجد أن بؤرة كل صراع هو ادعاء أحد الأطراف امتلاكه للحقيقة، وأن الآخر يعتدي عليها.

يمكنك رصد وملاحظة هذا التباين بسهولة، وفي كافة المجالات الحياتية، الرياضية والعلمية والسياسية حتى في الناحية الفكرية والأدبية يحدث خصام بين تيارات ثقافية مختلفة على قضايا لم تحسم حتى اليوم، وكل فريق يناصب الآخر العداء والهجوم، بحجة أنه يملك الحقيقة، وأن الآخرين لا يملكون إلا الزيف والتشويه، ومحاولة إطفاء نور الحقيقة، لأن عندهم مطامع وأغراضاً وصولية. 

تلفحنا كتب كثيرة بين وقت وآخر تحت عناوين براقة، مثل: لنحمي الحقيقة، ودفاعاً عن الحقيقة، وفي حماية الحقيقة، وحتى لا تضيع الحقيقة، والحقيقة والتاريخ، والحقيقة والمجتمع... إلخ وقد تصاب بالدهشة والذهول أن بعض هذه العناوين قد تمر عليك وهي مدونة لكتب عدة، بمعنى أن هناك نسخاً حتى لعناوين الكتب، التي تتحدث عن الحقيقة ! ولم يقتصر النسخ فقط في فكرة امتلاك الحقيقة، والذي أحسبه أقدم عملية نسخ إنسانية، تمت منذ عصور سحيقة وحتى العصر الحديث.

غني عن القول: إن هناك حقائق في هذا الكون مسلم بصحتها، وهناك اتفاقاً عاماً على صحتها المطلقة، ويدعم هذا الاتفاق والتسليم العلم الحديث، لكن حديثنا عن آراء أو عن قضايا إذا صح تسميتها جدلية لم تحسم سواء في مجال العلوم أو في مجال الطب أو حتى التاريخ والعلوم الإنسانية الأخرى، وهناك مواضيع جدلية لم تحسم منذ عصور غابرة حتى يومنا هذا، والبعض منها تحول مع مرور الزمن لفكاهة ومضرب مثل في عدم الاتفاق، وادعاء كل طرف بأنه يملك الحقيقة، وهذا الجدل العقيم كان على حساب أمور عظيمة أهم وأخطر، لعل خير مثال في هذا السياق القصة التي يتم روايتها عندما حاصر السلطان العثماني محمد الفاتح القسطنطينية، وكان البيزنطيون خلال حصار مدينتهم، في نقاش محتدم وملتهب حول عدة مواضيع، مثل هل الملائكة إناث أم ذكور، في الوقت الذي كانت القذائف تدك أسوار عاصمة بلادهم.

هذه النقطة تحديداً جديرة بالتنبه، لنفهم طبيعة الأمور، فلكل شيء ضوابط وشروط حتى في الحوار، حيث من الواجب الانتباه لها مثل أهمية الموضوع وحجمه، ومدى الوقت الذي يستحقه في النقاش والحوار حوله، كذلك التوقيت الذي يتم فيه الحوار، والفائدة المرجوة من مثل هذا الحوار، وقبل هذا جميعه هل الذي أمامك يملك رأياً حول الموضوع ولديه معلومات، أم هو فقط يجادل أو يحاور لمجرد الحوار، لكن ما الهدف من هذه العملية أصلاً، عملية الحوار؟ ببساطة متناهية الهدف هو إقناع الآخرين بالحقيقة، ويمارس كل طرف هذا الدور، فالجميع منشغل بمحاولة إقناع الآخر بالحقيقة التي يملكها، والذي يحدث أن كل طرف لا يقتنع ولا يرضى.. لماذا؟ لأن عقله ممتلئ تماماً، ولا مكان لآرائك أو وجهات نظرك، وهذا يقودنا للقصة المعروفة على نطاق واسع، وأوردها لمزيد من الفائدة، حيث يقال: إن أحد علماء الغرب سافر إلى الهند طالباً الحكمة من ناسك، يعيش فوق هضبة التبت، يلتحف بقطعة قماش حول وسطه، ويقتات بالماء وفتات الخبز، وعندما رأى الناسك الضيف، وبعد أن سأله عن سبب زيارته قدم له كوباً من الشاي، وأخذ يصب الناسك الشاي في الكوب حتى مُلِئ، وبدأ يسيل من جوانبه، لكن الناسك مستمر في صب الشاي في الكوب، فقال له العالم: يا سيدي لقد مُلِئ الكوب، ولم يعد يقبل المزيد، فأجابه الناسك على الفور: «هكذا يمتلئ عقلك بالأفكار السابقة.. كيف أعلمك شيئاً وعقلك ممتلئ مثل هذا الكوب، ولم يعد يقبل المزيد».

تعدد الآراء واختلافها قضية قديمة قدم التاريخ الإنساني، فهذا هو ابن عربي يقول كلمة لها دلالة عميقة وهي: «الطريق إلى الحقيقة تتعدد بتعدد السالكين»، ولعل من دلالات هذه المقولة أنه يتحدث عن الطريق، الذي يؤدي إلى الحقيقة لا الحقيقة نفسها، وأن هذه الطرق تتعدد، فليست طريقاً واحدة، وبالتالي لا نعلم من قد يصل إلى الحقيقة، ومن ينحرف عنها خلال مسيرته، لذلك نسمع بوجهات نظر مختلفة وآراء متعددة في كل قضية تثار، وتصبح مشاعة للحديث حولها، لكن ليس ما يواجه الحقيقة من عقبات هو الوصول لها، بل هناك صعوبات أخرى تعيقها وتمنعها، ولعل من هذه المعوقات المعتقدات المسبقة أو ما يسمى بالقناعة التامة، وهذا الجانب هو الذي سلط الضوء عليها الفيلسوف الألماني الشهير فريدريك نيتشه، عندما قال: «القناعات الراسخة أكثر خطورة على الحقيقة من الأكاذيب»، وعندما يتحدث فيلسوف بحجم نيتشه مؤلف كتاب إنسان مفرط في إنسانيته، ويؤكد أن خطورة المعتقد الراسخ– القناعات– تتجاوز خطورة الكذب، فهذا دليل أنه ينظر للموضوع من جانب حيوي ومهم، يتعلق بالحقيقة والكذب، ذلك أنه من البديهي أن نشاهد الأكاذيب تُهزم وتندحر أمام الوقائع، فحتى لو حدث تأخر في معرفة الكذبة، إلا أنها سرعان ما تظهر، ويتم اكتشاف زيفها، فلا أحد يحمي الكذب عندما ينبلج نور العلم والاكتشاف، ولعل الكذب يتمثل هنا في الخرافات والأساطير، التي تندحر يومياً أمام سطوة العلم والاكتشافات الحديثة، لكن المعضلة عند نيتشه تتمثل في من يرفض الحقيقة، لأنها فقط تتعارض مع قناعته الراسخة، وليست في الكذب وما يمثله من الخرافات والأساطير، لأن الواقع كفيل بهزيمتها دون عناء محاولة إقناع أتباعها، سأضرب مثالاً بمواضيع تتعلق بعلم الفلك، والذي كان يعتبر خرافة وعلماء الفلك مجرد مشعوذين وسحرة، وتم التصادم مع أقوالهم واكتشافاتهم مثل دوران الأرض وكرويتها، والتي ثبت فيما بعد أن الفلك علم، وأن الأرض كروية وتدور، صحيح أن هذه الحقيقة تأخرت، وذهب ضحيتها العشرات من العلماء، الذين تم قتلهم بتهمة التجديف والسحر، لكنها أخيراً ظهرت وانزوت، وتلاشت الأصوات المعارضة لهذه الحقيقة.

الحال نفسه في مجالات علمية أخرى مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء، والتي واجهت حرباً عدائية قاسية، لكن مع التطور الإنساني لم يكن هناك أي مفر إلا الاستسلام لها، وهو ما يعني استسلاماً للحقيقة، ويوجد جانب آخر في معضلة تعطيل الحقيقة وهو محاولة ابتسارها، واقتطاع جزء من محتواها، فقد يبدأ البعض بإنكار الحقيقة بشكل كلي، لكنه ما يلبث أن يراجع حساباته، ثم يبدأ في قبول جزء منها، وهكذا تجد أن الحقيقة مجتزأة قبل أن تكتمل وتسطع وتنير، يقول الأديب الكبير الدكتور طه حسين: «كل عقل يرى الحقيقة من جانب، ويكشف منها عن جزء»، وهذه معضلة أخرى تواجه الحقيقة دوماً، وهو اجتزاؤها، لكن لا بأس فهذه مسيرتها دوماً أنها تبدأ غريبة منزوية ومنبوذة تتعرض للكراهية، وكل أصناف التمييز، ولكنها سرعان ما تتسيّد المكان، وتسيطر على العقول بتلقائية وعفوية، وبنورها العميق الواضح، لأنها تتصالح مع الواقع، الواقع الذي لا يملك إلا هي كي تمثله، وتعبر عنه وعن جوهره. قد نختلف، وتتسع خلافاتنا، لكن لنجعل دوماً خط العودة مفتوحاً وممهداً، فلا شيء ثابتاً أو جامداً، فالجميع في حالة من التبدل والتغير، عدا الحقيقة، التي يجب أن ندعمها بالتسامح وقبول الآخر وفهمه، وتنمية معارفنا وسعينا نحو العلم لخدمة الإنسانية.

Email