الكتابة.. الترياق الأفضل للقارئ

ت + ت - الحجم الطبيعي

الكتابة منحت الإنسان التفوق، منحته التميز، ولكن الأهم أنها منحته القدرة على التطوير وحفظ المعلومات، وبما أننا في زمن ننعم فيه بخصال الكتابة وحسناتها الكثيرة جداً والمتنوعة، بل ننعم بنتائجها المذهلة ونجاحها في قيادة البشرية نحو التطور والرقي والحضارة، فإنه من البديهي أن ينشأ لها الدور والمعاهد والمناهج التي تحث على الإبداع والتميز فيها، وأن تكون هناك برامج متواصلة وقوية تدفع نحو التطوير في هذا المجال، وأي تراجع أو عدم حماس في هذا المضمار فإنه ودون شك سينعكس على مجالات الحياة الأخرى.

لو قدر لك وتوقفت أمام أي مؤلف وكاتب، وسألته ما الذي تعنيه الكتابة والتأليف له؟ وما هو شعوره وهو يمارس هذا الفعل؟ فإنني أجزم بأنه سيعبر عن السعادة كونه واحداً ممن يبذل كل ما بوسعه لاحتراف هذا العمل، أو إذا صح التعبير احتراف هذا الجهد وبذله، لأن في الكتابة، فضلاً عن خصالها العظيمة الأخرى، لذة عظيمة وفائدة كبيرة لكل من يتوجه نحوها، وهذا الجانب هو الذي يجعل كل مؤلف يراهن على الفعل الكتابي أكثر من سواه من المفاهيم التي تتعلق بالنوع أو التخصص أو غيرها من المصطلحات التي أرهقتنا، والكثير من المفاهيم المعقدة أو المبهمة.. ستجد مؤلفين تغمرهم الحماسة ونشوة الفخر كونهم ممن يمارسون التعبير عن الأفكار والركض خلفها وتدوينها، ومرد اعتزازهم وسعادتهم تعود لكونهم يصبون جهودهم في الحقل الذي نقل أو ساهم في نقل البشرية وتطورها، أو المجال الذي كان له الدور العظيم في تقدم الإنسان ورقيه وتميزه وإبداعه.


 هذا في جانب الحديث عن المؤلفين ومن يمارس الكتابة، أما القراء فعليهم أن يتذكروا ما قاله الروائي التركي الفائز بجائزة نوبل أورهان باموق: «المهارة ليست بقراءة المكتوب فقط». ولعلي أنتهز المعنى العميق الذي تحمله هذه الكلمات لأقول بأنه ومن هنا يصعد دور القارئ للواجهة، كونه هو المتلقي، ومن وجهة نظري هو الفيصل والحكم والمحك، هو الصدى لأي نص، أو إذا صح التعبير لأي كتابة يقوم بقراءتها، فما هي الكتابة دون وعي القارئ دون فهم المتلقي؟ ولو لم تكن البشرية متلقياً للفعل الكتابي لما تطورت ولما تقدم الإنسان.. إذاً رغم كل مصطلحات النصوص وجميع نظريات النقد، فإنني أعتبرها تتوقف عند نجاح النص، عند تلقيه الحسن والإشادة من القراء، مهما كان رأي النقاد أو المدارس النقدية وبحوثها ودراساتها.


 وكما قال المؤلف المسرحي والشاعر الفرنسي موليير: «على الإنسان أن ينظر لنفسه بتأمل وعمق قبل أن ينتقد الآخرين»، بل كما قال الناقد كينيث تينان: «الناقد رجل يعرف الطريق، ولكنه لا يعرف القيادة»، ولعل هذه المقولات تقودنا نحو التوقف عند الفرق الجوهري بين من يمارس الكتابة، وبين من يقوم بدور الناقد، وهو يفتقد جوهر هذا الفعل وقيمته، أو عدم الإلمام بعمقه أو عدم المعرفة بالتعب والآلام التي يعانيها المؤلف عند الكتابة، أو عدم تقدير هذا الجهد، والاكتفاء بإصدار حكم تحت أي عنوان من عناوين النقد المعروفة.


وفي العموم تظل الكتابة رغبة للتنوير وأداة مثلى وهامة لنشر المعرفة، وأعتقد أن هذه وظيفتها منذ فجر تاريخها، وأيضاً ستبقى هذه وظيفتها رغم كل النظريات التي تدرسها وتوزع أدوارها ووظيفتها ورسالتها، وهي ستبقى الفعل الأجمل في عقل وقلب كل مؤلف، رغم أنه قد يتعرض في كثير من الأحيان لسوء الظن أو التجاهل، رغم أنه قد نزف شيئاً من روحه بين الكلمات، أو أن يحصد الجليد والبرودة كردةِ فعل على منجز أخذ منه الكثير من الجهد والأرق، وكأنه قد تركه هرماً متعباً، ورغم هذا يعود مراراً وتكراراً لحضن الكتابة بعشق وشوق. 


وكما يتضح لنا فإن الفعل الكتابي تحيط به شجون وهموم وعقبات تقود مهمة التأليف نحو السمو، ولتصبح وظيفة نخبوية جديرة بالاحترام، والسبب ببساطة متناهية، لأنهم – المؤلفين - يصارعون على عدة جبهات، يقاومون الناشر القاسي الجامد، ويكتبون لناقد غير واعٍ، ولقارئ غير متفهم، ودون أي غطاء وسياج للحماية.. بعد هذا جميعه ألا يتضح لنا دور الكتابة ودور من يمارسها، ومن يعمل على تطويرها؟ ألا يتضح لنا عمق هذه المهمة، وتاريخها الضارب العمق في تاريخ الإنسان؟ وقبل هذا وبعده ما هي العلوم والمخترعات والمبتكرات دون الكتابة والتأليف، دون أن يكون هناك ثلة ممن أخذوا على عاتقهم وظيفة القلم وإرشاد البشرية وحفظ وصون تراثها وذاكرتها من الضياع، كم نحن بحاجة لمناهج التعليم والتطوير في مجال الإبداع الكتابي، والأخذ بيد كل من توجه نحو هذا المضمار، ومنحهم فرصة التحليق في سماء الإبداع ورسم خيالات من الآمال والطموحات، والكتابة عن شغف الإنسان وتطلعاته، عن بؤسه وشقائه، تفاؤله ونجاحه، وإذا لم يقم الكتاب والمؤلفون بهذه المهمة فمن لها إذاً؟! بل من الذي سيبلغ كل قارئ بأن الكتابة والتأليف شفاء وعون وفعل جميل يعود ويرتد عليه بالفائدة والخير، كما قالت الكاتبة والمؤلفة هنرييت كلوزر: «الترياق الأفضل للقارئ العليل، هو في الكتابة».
وفي حضرة الحروف والكلمات، وعمقها الضارب في الزمن، وأثرها العظيم جداً، هل يجدر القول بأن الكتابة تاريخ عميق من المنافع لإنسان غير مبالٍ؟!

Email