الأخلاق والسياسة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لعل عنوان المقال مثار للسخرية أو التندر بالنسبة لكثير من الناس، فكثير من الناس يرون أن السياسة مكان للتحايل والخداع. وفي السياسة كل شيء جائز، ومن له حيلة فليحتَل. والقول الشهير لرئيس وزراء بريطانيا في منتصف القرن التاسع عشر، اللورد بالميرستون، خير دليل؛ إذ قال: «لذلك أقول إنه من القصور أن نفترض أن هذا البلد أو ذاك يُعتبر حليفاً أبدياً أو عدواً دائماً لإنجلترا. ليس لدينا حلفاء أبديون، وليس لدينا أعداء دائمون، مصالحنا هي أبدية ودائمة، ومن واجبنا أن نتبع تلك المصالح».

ورغم ذلك يصر الكثير على أن هناك جانباً أخلاقياً في السياسة بشكل عام، وأن كثيراً من الدول تتعامل حسب قيمها ومبادئها. ويروي الأستاذ الشهير جوزف ناي أنه وُوجه بالاستهزاء حين أفصح أنه بصدد تأليف كتاب عن موضوع الأخلاق في السياسة، الذي نشره لاحقاً في 2020 تحت عنوان «هل الأخلاق مهمة: الرؤساء والسياسة الخارجية من روزفلت إلى ترمب». «ويعزو الكاتب هذا السخرية إلى عدم فهم الأخلاق بوصفها خياراً، فإن لم يكن هناك خيار فليس هناك أخلاق؛ أي أن الفرد أو الدولة يكون لها أكثر من خيار، وتختار الخيار الأكثر أخلاقياً، ويستشهد الكاتب بقول الفلاسفة: ينبغي يعني ضمنياً ما يمكن».

ويرى أستاذ العلاقات السياسية جوزيف ناي أن هناك ثلاثة عوامل صاغت الأخلاق في السياسة الخارجية الأمريكية، هي الاعتقاد بالاستثنائية الأمريكية. والاستثنائية الأمريكية، وهي معتقد راسخ عند النخب وعموم الشعب الأمريكي، تقوم على فلسفة الأنوار عند الآباء المؤسسين، وهي حق الشعوب في العيش الحر والاستقلال السياسي. والعامل الثاني يتمثل في الأصول الطهرانية المسيحية، التي فرت من أوروبا لممارسة المسيحية الخالية من الشوائب. وأخيراً، الحجم الهائل للولايات المتحدة وانعزالها من صراعات أوروبا. وقد استطاعت الولايات المتحدة التوسع داخلياً وليس خارجياً كبقية أقرانها من الدول الغربية.

ورغم ما يقول ناي فإن الحقيقة تشير إلى أن الولايات المتحدة اعتمدت القوة للتأثير على الدول الأخرى بدلاً من اتباع سياسة أخلاقية، ففي نزاعها مع الاتحاد السوفييتي سمحت واشنطن لنفسها بتجاوز كل الاعتبارات السياسية والقانونية وحتى الأخلاقية لهزيمة موسكو، والذي بدا لاحقاً أنه لم يكن بذلك الخطر عليها، كما يقول الدبلوماسي المخضرم ستيف سايمون في كتابه الأخير «الوهم الكبير».

ويورد ناي مثالاً على التصرف الأخلاقي للرئيس هاري ترومان في الحرب الكورية حين رفض أن يطاوع طلباً من القادة العسكريين باستخدام القنبلة النووية كما فعل في اليابان، وأنهى الحرب لصالح الولايات المتحدة وحلفائها. وقد رفض ترومان استخدام قنبلة نووية ضد كوريا الشمالية بحجة أنه لا يريد أن يستخدم الأسلحة النووية ضد دولة آسيوية ثانية خلال عقد واحد.

ولكن هذا نوع من لوي عنق التاريخ وتطويعه لإثبات دليل على وجود الأخلاق في السياسة؛ إذ استخدم ترومان قنبلتين نوويتين ضد اليابان في الحرب العالمية الثانية. وثانياً يقول بعض المؤرخين المراجعين إن ترومان استخدم القنبلة الذرية بعد أن أوشكت اليابان على الانهزام، وإن الغرض من استخدام القنبلة هو زرع الرعب في الاتحاد السوفييتي بقيادة ستالين، الذي بدأت سيطرته تتوسع على شرق أوروبا.

ولا شك أن ما منع الولايات المتحدة من استخدام القنبلة النووية في الحرب الكورية هو امتلاك الاتحاد السوفييتي سلاحاً نووياً بعد أن اختبر أول قنبلة نووية في العام 1949. وإذا ما استخدمت واشنطن سلاحاً نووياً ضد كوريا الشمالية لعرّض ذلك الجيش الأمريكي لضربات نووية من قبل موسكو. وقد يؤدي ذلك حينها إلى اشتعال حرب كونية ثالثة بعد خمس سنوات من نهاية الحرب العالمية الثانية.

والعبرة هنا أن اعتبارات مصير البشرية تفوقت على حسابات القوة والسيطرة، ولعلها مكمن الأخلاق في الأخذ بالاعتبارات البعيدة. ولكن كيف يمكن تقنين هذه الاعتبارات؟! مسألة تحتاج إلى بحوث مطولة. وقد قيل إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

Email