عن غرب هائج وإقليم متعقل

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد مضي يوم أو بعض يوم على هجوم السابع من أكتوبر الماضي، ضد مستوطنات غلاف غزة، كانت بعض حاملات الطائرات الأمريكية المصحوبة بعدد من السفن والبوارج الحربية..

قد تحركت إلى شرق المتوسط، لتتخذ لها مواقع قريبة جداً من مسرح العمليات. أعقب ذلك، وبالسرعة القياسية ذاتها، تنحية معظم قادة عالم الغرب على جانبي الأطلسي، وفي طليعتهم الرئيس الأمريكي بايدن، كل ما يشغلهم جانباً، والتقاطر تباعاً إلى منطقة الشرق الأوسط، وجميعهم استهل حضوره الطارئ بزيارة إسرائيل.

في إطار الصراعات والقضايا الإقليمية أو الدولية، الباردة منها أو الساخنة، ثمة احتمال بأن تأتي الحراكات والتلويحات والمناورات والمواقف ذات الطبيعة العسكرية، التي قد تضطلع بها أطراف ثالثة، لاحقة للمداخلات السياسية والدبلوماسية المتأنية الممتدة. ولكن وقوع هذا الحراك، غير المؤكد عموماً، جاء معاكساً تماماً بين يدي جولة القتال الإسرائيلي الفلسطيني المتفاعلة، بحيث منحت العواصم الغربية الأولوية للتأثير، قولاً وفعلاً، بأدوات القوة.

بهذا السلوك غير المألوف، بدت هذه العواصم وكأنها ردف ظهير لأحد الطرفين وليست طرفاً ثالثاً أو وسيطاً بينهما. حدث ذلك من الجميع بدرجات متقاربة من المراءاة وفقدان اللياقة السياسية والدبلوماسية. وهكذا رأيناهم يأخذون جانب إسرائيل، وهم مغمضو العقل والعين والذاكرة، ومن دون تبصر أو عناية حقيقية بالخط الموصول بين هذه الأزمة، أو الجولة، وبين السياق التاريخي للصراع الدامي على أرض فلسطين لنحو مئة عام وزيادة.

يقال إن هذه الأرمادا العسكرية السياسية الغربية، إنما استهدفت طمأنة إسرائيل إزاء احتمال توسع الأزمة، وردع أطراف أخرى إقليمية عن الاصطفاف إلى الجانب الفلسطيني في الميدان. وهذا صحيح، وقد تحقق عملياً إلى حد يفوق كل الاحتمالات.. لكن ما يلفت النظر أن هذه المداخلة الغربية الحمائية تمثل في حد ذاتها مظهراً أو معلماً لتدويل الصراع، الذي لا يقل خطراً عن توسعه إقليمياً..

وإنها تقود إلى تشجيع الطرف الإسرائيلي باتجاه الغلو والإفراط في استعمال القوة. وهو ما جرى عملياً وميدانياً بمقادير تفوق أيضاً في كل التصورات. لقد استغلت إسرائيل الانحياز الغربي، بأن رفعت أهداف حملتها على قطاع غزة إلى سقوف عالية، ترقى إلى فكرة إعادة الهيكلة الجيوستراتيجية والديموغرافية السكانية هناك، بما من شأنه التأثير عضوياً في المشهد الإقليمي عموماً وفي مصير أم القضايا في هذا المشهد.

هناك الآن مخاوف عربية تثار جهرة، أن تقوم إسرائيل بعد انتهاء الهدنة بإجبار أهل القطاع على النزوح جنوباً أكثر داخله أولاً، ثم إلى الجنوب أكثر نحو سيناء المصرية تالياً.

ضمن المعاني الناصعة في هذا الإطار، أن إسرائيل هي التي تبدو وكأنها تسعى إلى توسيع نطاق موقعة غزة، وصولاً إلى اندياحها أو استطرادها نحو المحيط الإقليمي. ومن وجهة نظر منطقية يحق لهذا المحيط أن يتحسب، بل وأن يقف على أطراف أصابعه، إزاء هكذا تصور..

وهنا نخص بالذكر كلاً من مصر بصفة راهنة وعاجلة، لأسباب يمكن تفهمها الآن بسهولة، ثم الأردن بحكم الحذر من محاكاة هذا السيناريو المقبض، وإزاحة أهل الضفة الغربية قسراً إلى الشرق، تحت ظروف لا يصعب افتعالها في أفق زمني مواكب أو لاحق.

مؤدى ذلك، أن القوى الإقليمية هي التي تبدو أكثر تعقلاً وضبطاً للنفس، وحرصاً على منع توسع القتال الجاري أو أقلمته، قياساً بالسياسات الغربية وبالتصرفات الإسرائيلية المعطوفة عليها. ويعرف أهل الذكر والمتابعون، أن هذا التعقل يأتي بالمخالفة للغضب والغليان الشعبيين، اللذين يتغذيان على مشاهد حرب الإبادة الإسرائيلية المسعورة في غزة.

تقديرنا، أنه كان، وما زال، بوسع عالم الغرب التوسل بحالة احتياج إسرائيل الماسة إلى دعمه ومساندته ورعايته الأبوية، من أجل تعليق الجرس في رقبتها المنحنية له، وسوقها نحو المضي إلى تطبيق الرؤية التي يلوكها في خطابه لأكثر من عشرين عاماً، وهي الرؤية ذاتها الأكثر تردداً بين يدي مبادرات التسوية النهائية للصراع، القائمة على حل الدولتين.

هذا في حين يقدم الدعم المجاني غير المشروط لتل أبيب وصفة لا تخيب لديمومة الصراع، وربما أقلمته أو حتى عولمته، من يدري.. ثم إنها وصفة مضمونة الفعالية لشحذ همم المتربصين القائلين، داخل فلسطين التاريخية وبين قطاعات شعبية من محيطيها الإقليمي والدولي، بأن ما يدور هناك هو صراع وجود لا صراع حدود.

Email