المعرفة الإنسانيّة

ت + ت - الحجم الطبيعي

قد يدهش الكثيرون عندما يعلمون أن المعرفة رغم ما قد يظهر لنا من عفويتها وعموميتها وبساطة تنقلها إلا أنها خاصة ومحدودة، وليست عامة ولا هي شاملة، وبالتالي فإن من يحصل عليها هم قلة أو الفئة المتميزة، لأن لها متطلبات وشروطاً، المعرفة التي تميزك وتنقلك وتدفع بك نحو الأمام لا يمكن الحصول عليها إلا بالسعي نحوها وتعلمها.. فيلسوف الصين الشهير كونفوشيوس، وضع متطلباً مهماً للمعرفة، وهو شرط حيوي وعلى درجة عالية من الأهمية، حيث قال: «لا يمكن للمرء أن يحصل على المعرفة إلا بعد أن يتعلم كيف يفكر» وهنا نقطة مهمة يجب عدم المرور عليها بسطحية وهي عملية التفكير، كثير من العلماء والفلاسفة تحدثوا عن آلية التفكير وطرقه وكيف يتم، وهذا يوضح أن التفكير ليس عفوياً ولا هو بسيط، بل يحتاج لمتطلبات وجهد ذهني عميق وفهم للهدف الذي يراد بلوغه.

 قد يرى البعض أن الموضوع أبسط من هذا بكثير، ومن الممكن أن يتم استحضار ما قاله العالم ليوناردو دافنشي: «إن الطبيعة لطيفة معنا لأنها تجعلنا نجد المعرفة حيثما أدرنا وجوهنا في العالم» وهذه الكلمات صحيحة، وهي تحكي عن واقع نعيشه ويمكن ملاحظته، لكن مرة أخرى لا يوجد تعارض ولا تقاطع بين ما قاله حكيم الصين ولا هذا الرأي، لأن التفكير وعملياته المتعددة لها الكلمة الفصل في سياق الإلمام بالمعرفة وفهمها وتوظيفها لخدمتك.

وهذا يقودنا مباشرة نحو وجهة نظر عميقة تربط بين مختلف النظريات والآراء، طرحها المفكر والعالم في علم الاجتماع الدكتور عبدالوهاب المسيري، حيث قال: «المعرفة الإنسانية معرفة مقارنة، فنحن لا نعرف الشيء في حد ذاته، بل نعرفه في علاقته بشيء يشبهه وآخر يختلف عليه».

ولتحقيق هذا الفهم الذي أشار له المسيري، نحتاج لعملية تفكير وتأمل عميقة وبمجرد ممارسة التفكير فإننا نكون قد خطونا نحو المعرفة وتحصيلها والتمكن منها ومن توظيفها.. يقول الكاتب الروماني ماركوس توليوس سيسرو، والذي عرف باسم شيشرون، وعاش قبل الميلاد بأكثر من مئة عام: «المعرفة فن ولكن التعليم فن آخر قائم بذاته».

وهو محق تماماً، فرغم عمق هذه الكلمات الضاربة في الزمن البعيد، إلا أنها تلامس حاضرنا، لأننا عندما نقول إن المعرفة تتطلب التفكير، فهذا يعني التعلم، تعلم آلية وطريقة التفكير وفهمه ثم الكيفية التي ننتقل من الفكرة إلى الواقع.

وأيضاً عندما يقال إن الحصول على المعرفة يتطلب معرفة التضاد والمقارنة بين مختلف ما نراه، فلأن هذه المهارة ستمكننا وستضعنا على طريقة المعرفة، المعرفة التي ستقود إنجازاتنا وتطورنا، بل التي ستميزنا عن الآخرين وتجعلنا نمتلك الخبرة والأسبقية، وتولد لدينا حالة من الإبداع المستمر وتثري أفكارنا بكل جديد، بشرط أن نستمر في تغذية عقولنا بها وندرب هذه العقول على آلية التحليل والتفكير البناء المثمر حولها، ونستمر بشكل متواصل في النهم والبحث المعرفي، وكما يقول المثل الصيني: «المعرفة التي لا تنميها كل يوم تتضاءل يوماً بعد يوم».

وهذا متطلب آخر للمعرفة وهو الاستمرارية، وفي غمرة هذا التوجه والركض في مضمار المعارف يجب الحذر من جملة من الأخطار أو جملة مما قد يشتت النظر عن الهدف مثل الاعتقاد بأن بين يديك معرفة ثمينة وهي تقليدية وقديمة أو مثل الاعتقاد بأن لديك ما تحتاجه من معارف وعلوم في موضوع ما وتكتشف أنه لم يحن أو أنها تمس موضوعاً آخر مختلفاً تماماً، يقول الشاعر أنطوني دانجيلو: «حاول ألا تغرق في المعلومات وأنت تبحث عن المعرفة»..

إذن نحن أمام عدة متطلبات للمعرفة كما ذكرها وكما جاء على ألسنة هؤلاء العلماء والفلاسفة، حيث يرى حكيم الصين كونفوشيوس أهمية التفكير، بينما يرى العالم ليوناردو دافنشي التأمل، ويذهب الدكتور عبدالوهاب المسيري إلى المقارنة، ويحث الكاتب الروماني ماركوس على التعلم، بينما يراها الصينيون في أمثالهم في الاستمرار، ويذهب الشاعر أنطوني إلى التحذير من الغرق المعلوماتي.. وهؤلاء وغيرهم كثير من العلماء والفلاسفة لديهم آراء لا تقدر بثمن سواء في مجال المعرفة أو في مختلف مجالات الحياة، وكما مر معنا يظهر من كلماتهم تضاد وتعارض ولكن بمجرد التعمق فيها نجدها تلتحم في كيان واحد وتوجهنا التوجيه الأمثل نحو الحصول على المعرفة وتوظيفها واستخدامها في حياتنا لتسهل هذه الحياة وتدفع بنا نحو المستقبل ونحو الرفاه والتقدم والتطور الحضاري.

ولنتذكر أن المعرفة وحدها لا قيمة لها، أو لن تحقق هدفها، ولتكون المعرفة قوية ومفيدة وثمينة عليك بالتأمل والتفكير والتعلم والاستمرارية، ثم الانتباه من الغرق المعلوماتي.

Email