رغم أن القوة تلعب دوراً رئيساً في العلاقات بين الدول والأفراد في كل المجتمعات منذ تكون هذه الدول، إلا أن تعريفه وضبطه كمفهوم يعتريه كثير من اللغط والغموض.
والقوة بتعريفها البسيط أن تجعل دولة تقوم بما تريد دولة أخرى ما كانت لتقوم به. فإذا توافقت الإرادات فليس هناك معنى للقوة، أما إذا قامت بما تريد رضوخاً لرغبتك فهذه هي القوة.
وهناك دائماً معايير يختلف حولها الباحثون لقياس قوة دولة ما. ولكن قبل التطرق إليها لا بد من الإشارة إلى تجليات القوة بأبعادها المختلفة، فالقوة المتعارف عليها هي القوة المباشرة بأن يجبر (س) قسراً (ص) بالقيام بشيء ما. كأن تجبر الولايات المتحدة دولاً معينة لاتخاذ موقف واضح من الحرب في أوكرانيا أو روسيا تضغط على دولة أخرى بنفس النحو.
البعد الثاني هو البعد البنيوي بأن فارق القوة بين دولتين تجعل دولة ما تتصرف بطريقة استجابة لفارق القوة. فهنا القوة ليست مباشرة.
فإذا امتنعت دولة معينة عن القيام بفعل معين لأسباب بنيوية تتعلق بفارق القوة بين دولتين فهناك يكون البعد البنيوي وليس القوة المباشرة فرضت سلوكاً على هذه الدولة. فامتناع دولة من تزويد روسيا بالأسلحة لأجل الخوف من عواقب سياسية أو اقتصادية من قبل الكتلة الغربية فهي الدالة على تأثير القوة البنيوية.
أما البعد الثالث للقوة فيتمثل في حالة التماهي مع القوي. فمن دون الإكراه أو استيعاب فارق القوة (التأثير البنيوي) فإن الطرف الضعيف يقلد ويتشبه بالطرف الأقوى دون أن يبذل الأخير أي جهد لإجبار الطرف الآخر أو التلويح بقوته لجعل الطرف الأضعف أن يقوم أو يلبي رغباته، وهذه النقطة الأخيرة تتشابه إلى حد ما مع ما يسمى القوة الناعمة.
إلا أن الفارق بين المفهومين أن التماهي مع القوة البنيوية مصدرها الافتتان بالقوي والرغبة في تفادي التصادم معه بتقليده. أما القوة الناعمة انجذاب حقيقي نابع من إعجاب بالمنجزات ومحاولة اللحاق بها. ولكن في كلتا الحالتين يعني تقليد القوة المهيمنة.
ويحسب الكثير أن القوة متمثلة في عدد الطائرات المقاتلة والدبابات والمدافع الذي تملكها الدولة. فالقوة المسلحة هي أوضح تجليات القوة للبلدان. وهي التي تتصدر عناونين الأخبار في حالة استخدامها. ولكن للقوة عناصر متعددة منها الاقتصاد والدبلوماسية والإعلام.
والاقتصاد هو أساس عناصر القوة كافة. فبالاقتصاد تستطيع بناء جيش قوي كما أن القاعدة الصناعية لأية دولة هي مصدر الإنتاج الحربي على سبيل المثال. والسيولة المالية للدول تعطي لها قوة نفوذ على الدول الأخرى والتي تسعى إلى الحصول على الاستثمارات المباشرة أو القروض من الدول التي لها وفرة مالية كبيرة.
وقد استمعت مؤخراً إلى وزير خارجية أمريكي سابق يتحدث أن العامل الاقتصادي كان أهم عنصر من عناصر التأثير لديه، والذي يتلقى يومياً طلبات اقتصادية من دول عدة لا يقابلها طلبات لتحريك أساطيل دولته إلى مناطق معينة طلباً للدعم العسكري.
وأصبح اليوم عنصر الإعلام للدول عنصراً رئيساً في مقدرات الدولة. وكما نرى في الحرب الجارية في المنطقة فإن الأطراف المتحاربة تخوض ليس معركة عسكرية فحسب، بل حرب إعلامية لا تقل ضراوة حتى وإن كانت أقل دموية. وعلى المنوال نفسه فإن الدبلوماسية لها بالغ الأثر في السياسة الدولية.
وتأثير الدول التي لها حضور دبلوماسي أكبر من الدول والتي لا تملك وسائل دبلوماسية. ويجدر الإشارة إلى أنه في حرب تحرير الكويت، هزمت الولايات المتحدة العراق دبلوماسياً قبل أن تهزمه عسكرياً. واستطاعت في فترة وجيزة أن تستصدر قرارات عدة من مجلس الأمن تحت البند السابع والذي مهد للعملية العسكرية التالية.
هذه هي أبعاد القوة وعناصرها المتعددة والتي يجب فهمها قبل أن نفهم طبيعة العلاقات بين الدول.