المعركة السياسية الأمريكية

ت + ت - الحجم الطبيعي

بينما ينشغل العالم بالمعارك الطاحنة في شرق المتوسط، هناك معركة كبيرة تدور رحاها في واشنطن أقل ضراوة ولكنها شرسة سياسياً عما يدور في المنطقة.

عنوان الصراع السياسي في واشنطن هو التحزب والتقوقع في خنادق سياسية متضادة لا تنبئ بالخير. الحوكمة تتطلب نهجاً عقلانياً يؤدي بالضرورة إلى مساومات بين الفرقاء.

ولكن كل الأطراف تأبى إلا تحزباً. وقد بدأت المعركة الحالية حينما أقدم كيفن مكارثي رئيس مجلس النواب على الوصول إلى مساومات لتخطي عقبة اعتماد الميزانية من قبل الكونغرس.

هذه الخطوة الجريئة التي كادت أن تشكل فارقاً في العلاقة بين الحزبين دفع ثمنها مكارثي بعزله عن منصبه. وهو منصب رفيع في سلم القيادات الأمريكية حيث يمثل المتحدث للكونغرس الثالث بعد الرئيس ونائبه.

ومما يجدر إليه الإشارة أن ثمانية من اليمينيين الجمهوريين بالتعاون مع الديمقراطيين أطاحوا برئيس مجلس النواب منذ أسابيع.

وبقي الجمهوريون محتشدون حتى تم إيجاد بديل وهو مايك جونسون. ومن نافل القول إن انعدام وجود رئيس لمجلس النواب يعطل أعماله بشكل سافر ومنها اعتماد ميزانية دائمة لتحل محل الإجراء المؤقت الذي وافق عليه المجلسان وإلا ستتوقف الحكومة عن العمل في نوفمبر المقبل.

وفي تقرير لمنظمة بيو لاستطلاع الآراء يذكر أن الاستقطاب بين الجمهوريين والديمقراطيين أصبح أكبر اتساعاً منذ خمسين عاماً.

ورغم ذلك يقول التقرير إن العوامل التي أدت إلى الاصطفاف الشديد في الكونغرس استهلت في التشكل منذ زمن. وما نراه اليوم هو نتيجة لهذه التطورات التي رشحت إلى العلن.

ويحدد التقرير ثلاثة عناصر ترافدت لخلق الحالة القائمة: والعنصر الأول يتمثل في التماسك الأيديولوجي للطرفين. هناك حوالي 20 عضواً فقط في الكونغرس ممكن تصنيفهم بالمعتدلين بالمقارنة مع 160 في العام 1971 - 1972.

الحزبان الرئيسان أصبحا أكثر ابتعاداً من المركز، حيث أصبح متوسط العضو الديمقراطي أكثر ليبرالية ومتوسط العضو الجمهوري أكثر محافظة.

والتكوين الجغرافي الديمغرافي للحزبين أصبحا أكثر تبايناً. حوالي نصف الجمهوريين يأتون من الولايات الجنوبية المحافظة حينما يتشكل حوالي نصف الديمقراطيين من خلفيات الأقليات العرقية مثل السود والإسبانيين.

وقد عزز من هذا الاستقطاب توفر وسائل إعلام اجتماعية في أيادي الأطراف جميعها. ويقول تقرير لمعهد بروكينجز الشهير إن وسائل التواصل الاجتماعية ليست السبب الرئيس للاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة، ولكنها بكل تأكيد هي من تؤجج من هذه النزعة.

ورغم أن هذه الوسائل تنكر تأثيراتها السلبية على قضية الاستقطاب السياسي إلا أن الإجماع العلمي يؤكد على هذه الحقيقة، وأن خمسة عشر باحثاً توصلوا إلى نتيجة مفادها أن منصات التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك» و«إكس» تعمقان من التحزب السياسي في البلاد.

وهناك التكوين الاجتماعي للحزبين، فحسب وكالة «إن بي سي» فإن الحزب الجمهوري يتشكل من 62 في المئة من البيض غير الخريجين من الجامعات.

بينما كان نسبة هذه الفئة 48 في المئة قبل عشر سنوات. بينما أصبح البيض الجامعيون في الحزب الجمهوري 25 في المئة فقط.

وهذه الفوارق في المستويات التعليمية أثرت وما زالت على التوجهات السياسية. وتعتبر الطبقة الوسطى العماد الأساسي الذي تقوم عليه الديمقراطيات المتقدمة. وانحدار هذه الطبقة يشي بمستقبل مجهول لأي بلد.

اتسع الخرق على الواقع بينما كانت واشنطن منشغلة بالعالم الخارجي. آن الأوان إلى الرجوع إلى الداخل وإعادة بناء المؤسسات الداخلية وإلا فسدت السياسة الداخلية والخارجية. وقد قال الشاعر قديماً:

أرى بين الرماد وميض نار         ويوشك أن يكون لها ضرام

Email