المعركة التي تجري على الأرض في فلسطين المحتلة، تقابلها معارك تجري في الفضاء الإلكتروني، أبطالها مجموعة من الجالسين على الأرائك والنائمين على الأسرّة تحت مكيفات الهواء، في عواصم العالم المختلفة، يمنحون شهادات الوطنية لمن يشاؤون، ويوزعون صكوك الخيانة والعمالة على من يشاؤون، مستغلين وسائط التواصل الاجتماعي المختلفة.

وإذا كان ما يجري على الأرض في فلسطين المحتلة مأساوياً ومؤسفاً، فإن ما يجري في الفضاء الإلكتروني خارج عن نطاق العقل والمنطق، تماماً مثلما هو خارج عن نطاق السيطرة، لأن بعض الذين يديرون هذه المعارك، تحركهم العواطف أكثر مما تحركهم العقول، والكثيرون منهم تحركهم الأيادي الخفية، فمن الواضح أن هناك خلايا تنشط لإثارة الخلاف، وبث الفتنة بين أبناء الأمة. لذلك ليس من الحكمة الدخول في تلك البثوث والمشاركة في حواراتها، لأن أهداف أصحابها واضحة، فهم لا يسعون إلى الاتفاق، بقدر ما يسعون إلى زيادة رقعة الشقاق، مدركين أنه كلما زادت حدة النقاشات واتسعت مساحة الخلافات، ارتفعت المتابعات، وامتلأت الجيوب وزادت الأرصدة، وتحققت الأهداف.

إن ضحايا الحروب ليسوا البشر والبلدان فقط، وإنما هي الحقيقة التي يدّعي كل طرف من الأطراف أنه يمتلكها، حتى يبدو للناظر إلى الصورة أن للحقيقة أكثر من وجه، في حين أن وجه الحقيقة واحد، لا يراه إلا أولئك الذين يملكون من قوة البصيرة أضعاف ما يملكون من قوة البصر، ويملكون من النقاء والإخلاص، ما يجعلهم جديرين بقيادة الشعوب، والسير بها نحو مرافئ الأمان، وسط هذه الأمواج المتلاطمة من الصراعات والحروب التي تغطي الجزء الأكبر من الكرة الأرضية.

لقد عزف أعداء هذه الأمة على وتر التخوين والعمالة منذ البدايات الأولى للقضايا الوطنية، وحاول كل الذين سعوا إلى كسب الزعامة، أن يستفيدوا منها بشكل من الأشكال، فتنازع قميصها إخوة، هم إلى العداوة أقرب، وعلى هذا الجيل من أبناء الأمة أن يعي دروس الماضي ويستفيد منها، وألا يسمح لأحد باستغلال قضايا الأمة، كي يرتقي إلى الزعامة، على حساب دماء النساء والأطفال والأبرياء من كل الفئات والأعمار، فقد شبعنا أقنعةً زائفة، ينكشف ما تحتها بعد أن تُراق دماءٌ، وتُزهَق أرواح، وتترمل نساء، ويتيتم أطفال، لا ذنب لهم سوى أنهم ولدوا وسط هذه الظروف السيئة في هذا الزمن الملتبس.

لقد اتضح خلال هذه الأحداث، من الذي يسعى إلى تحقيق مصلحة الأمة وتهدئة الأوضاع وحقن دماء النساء والأطفال، مثلما اتضح من الذي يسعى إلى ركوب الموجة، واستغلال الأوضاع لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، حتى لو كان ذلك على حساب الأرواح التي تُزهق، والدماء التي تراق، والبيوت التي تُقصف، والبنى التحتية التي يتم تدميرها، ولولا حزم الدول العربية المجاورة لفلسطين المحتلة، وعلى رأسها مصر والأردن، ومواقف الدول العربية المساندة والداعمة لحق الشعب الفلسطيني في الحياة الكريمة، وفي التمسك بأرضه ووطنه، لولا هذه المواقف، لوجد الشعب الفلسطيني نفسه يواجه نكبة كبرى، ولوجد سكان قطاع غزة أنفسهم أمام هجرة لا تقل مأساوية عن تلك التي تعرض لها إخوتهم وأهلهم بعد نكبة عام 1948 ونكسة عام 1967.

الأمر الذي يؤسف له، أن لغة بثوث وسائط التواصل الاجتماعي، التي تعمل على تمزيق أوصال الأمة، انتقلت خلال هذه الأحداث إلى القنوات الفضائية، التي يسعى بعضها إلى استعادة المكانة التي فقدها خلال السنوات الماضية، وإلى تلك التي تعمل على تنفيذ الأجندات المكلفة بتنفيذها من قبل الجهات الخارجية التي تمولها وتقف خلفها، وإلى قنوات أخرى تعمل على نشر سياسة البلدان التي تبث منها، وتشكل واجهة لها. والمؤسف أيضاً، هذه الأهداف وغيرها لا يمكن الوصول إليها إلا على حساب المصداقية، وعلى حساب مصلحة الأمة وحاضرها ومستقبلها، هذا المستقبل الذي هو مرهون باجتماع أبناء الأمة، ووحدة صفهم وكلمتهم، وهو ما تعمل هذه البثوث المسمومة على محاربته، وذلك من خلال أصوات نشاز، نعرف جيداً أنها لا تخرج إلا من نفوس عامرة بالخراب، لتبثها إلى عقول تتمنى لها الدمار.