شخصيات تحت المجهر

عبد الله بن يوسف فخرو.. بحريني رضع التجارة أباً عن جد

ت + ت - الحجم الطبيعي

أصدر الصديق عادل عبد الله يوسف فخرو، مؤخراً، كتاباً بالإنجليزية، سلط فيه الضوء على الأحداث والتحولات التي شهدتها البحرين منذ عهد حاكمها الأسبق، الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، وإلى اليوم، وذلك في معرض تناوله سيرة والده عبد الله فخرو، وجده الأكبر عبد الرحمن فخرو، وجده المباشر يوسف فخرو، وأعمامه علي ومحمد وأحمد وغيرهم، وتطرقه إلى جوانب من أعمالهم ومغامراتهم وأنشطتهم التجارية، التي بدأت في البحرين في حدود عام 1888، على يد «عبد الرحمن بن عبد الله بن حسن بن محمد فخرو»، الذي كان والده عبد الله أحد ثلاثة إخوان انتشروا في مناطق مختلفة من الخليج. ففي حين استقر عبد الله في البحرين، وأنجب فيها عبد الرحمن، فإن شقيقه درويش استقر في قطر، حيث أسس بها فرع عائلة فخرو، الذي بدوره تفرع إلى عائلات تحمل أسماء الدرويش والعثمان والعبيدان والخال والحسن والجاسم.

يقول المؤلف إن آل فخرو ينحدرون من قبيلة بني تميم النجدية، وأنهم مثل غيرهم تركوا منازلهم في نجد في أواخر القرن 17، بسبب المجاعة، وعبروا الصحراء والبحر للاستقرار في بلدة «ديلم»، إلى الغرب من ميناء بوشهر الإيراني، كما أنهم سكنوا لاحقاً ميناء لنجة، حاضرة العرب على الضفة الأخرى من الخليج العربي، وأنه، في هذا الميناء، برز اسم آل فخرو كعائلة تجارية معروفة ومتنفذة، وتحظى بالاحترام، بسبب امتلاكها لأسطول من السفن، واتجارها مع الهند وأفريقيا ومعظم مناطق شبه الجزيرة العربية.

وبعد أن ثبتوا أقدامهم تجارياً في لنجة، وذاع صيتهم في موانئ أخرى، نزحوا إلى جنوب وغرب الخليج كتجار وأرباب أعمال، مع البدايات المبكرة للقرن 19، لينتشروا ويستقروا في البحرين وقطر. وبسبب تحركاتهم ما بين ضفتي الخليج، صنفوا ضمن من يطلق عليهم «الهولة» (قبائل عربية نزحت في فترات مختلفة، ولأسباب اقتصادية من قلب الجزيرة العربية إلى الساحل المقابل للخليج العربي، ثم عادت أدراجها إلى مواطنها الأصلية، هرباً من قرارات فارسية جائرة، طالت عقيدتهم وثقافتهم وتجارتهم وحياتهم).

درس جد العائلة الأكبر عبد الرحمن بن عبد الله فخرو كمعظم مجايليه في الكتاتيب التقليدية، وحينما شب ذهب للعمل بميناء الجبيل السعودي، لكنه سرعان ما عاد إلى البحرين، بسبب ازدهار تجارتها، ففتح دكاناً في المحرق لبيع الأرزاق والتمور والخشب، وتصديرها إلى موانئ الخليج القريبة.

تزوج الجد عبد الرحمن مرتين: الأولى من زليخة فخري، التي أنجبت له سنة 1871، ولده الوحيد يوسف. والثانية من فتاة من عائلة جمشير البحرينية، التي أنجبت له ابنتين توفيتا صغيرتين.

أما يوسف (الجد المباشر للمؤلف)، فقد تزوج ست مرات، لكن زيجته الأهم كانت الثانية، حينما اقترن سنة 1904 بحصة يوسف محمد مراد (1893 - 1951)، والتي تزوجها وهي في الحادية عشرة، وعرفت بقوة شخصيتها وتدينها وتفسيرها للقرآن. أنجبت حصة ليوسف 13 من الأبناء، وهم بالترتيب: أحمد ومحمد وفاطمة وأمينة ومريم وعبد الله الأول وموزه وعبد الله الثاني وإبراهيم وشيخة وزكية ولطيفة ومنيرة.

بدأ يوسف تعلم أصول التجارة على يد والده في دكانه، على عادة الناس آنذاك. وفي عام 1888، حينما كان في سن الـ 17، أعطاه والده عبد الرحمن 300 روبية كرأسمال يبدأ به تجارته الخاصة، فبدأ الرجل في استثمار المبلغ في تجارة المواد التموينية. وبسبب شطارته وذكائه، واستغلاله لموقع البحرين التجاري المزدهر، سرعان ما برز كتاجر ذي مكانة محترمة في منطقة الخليج، وما يليها من مناطق، بل صار تاجراً لديه وكلاء وارتباطات في مختلف الموانئ الرئيسة، مثل محمد ثنيان الغانم في البصرة، والبسام في بومباي، والمرزوق في كراتشي، والصقر في مليبار، وجاسم شاهين الغانم في عدن.

في بداية مسيرته، كان يوسف شريكاً لآخرين من البحرين والكويت في ملكية السفن التجارية، لكنه مع اتساع تجارته ومكانته المالية، راح يبني لنفسه سفناً تجارية ضخمة الحمولة، مستورداً أخشابها ولوازم صناعتها من الهند، وعاهداً بتصنيعها إلى قلاليف بحرينيين، ومكلفاً نواخذة من البحرين وإيران بتسييرها. وقد استخدم يوسف مراكبه في شراء التمور من البصرة، وبيعها في مومباي وكراتشي ومليبار وممباسا وعدن والمكلا، ثم تحميلها في طريق العودة بالمواد الغذائية والأخشاب والزيوت والبهارات والقهوة والشاي والسكر وجوز الهند، لبيعها في البحرين، من خلال دكاكينه الثلاثة، على سيف المحرق، وعند باب البحرين، ومنطقة النعيم بالمنامة.

وعلى طريقة والده، حرص يوسف أن يعلم أولاده أصول التجارة، من خلال الممارسة والاحتكاك، حيث جعل ابنه الأكبر أحمد ينخرط معه في عام 1916، في سن الـ 11، وفي السنة التالية أرسله إلى الهند بصحبة أحد أصدقائه لاكتساب الخبرة. لاحقاً، في الثلاثينيات والأربعينيات، أرسل يوسف أولاده الآخرين إلى الخارج لإدارة تجارة العائلة، فمثلاً أرسل عبد الله إلى البصرة، ومحمد إلى مليبار بجنوبي الهند، وعلي إلى عمان ودبي.

لقد كان يوسف تاجراً ناجحاً، تجاوز والده عبد الرحمن لجهة النشاط والتوسع والإثراء. ومما يذكر أنه حينما كان عبد الرحمن فخرو في أوائل عقده السادس، وكان ابنه يوسف في الثلاثينيات من عمره، أقدم عبد الرحمن على كتابة وثيقة تنازل بموجبها عن أحد بيتين يملكها إلى ابنه يوسف، كما أن الأخير جعل والده يمضي على وثيقة أخرى، يقر فيها أن كل ما يملكه يوسف هو من حر ماله واجتهاده الشخصي، دفعاً لأي مطالبات من الورثة حينما يتوفى.

في عام 1917، وبسبب تقارير مغرضة سربتها ضده عائلة تجارية منافسة إلى الوكيل السياسي البريطاني في البحرين، قامت السلطات البريطانية بتفتيش منزل الحاج يوسف عبد الرحمن فخرو، فوجدت ضمن أوراقه 3 رسائل موجهة إليه من شاكر أفندي قائد الفيلق العثماني المرابط في قطر، يطلب فيها منه المساعدة بإرسال مواد غذائية ولوازم أخرى، بسبب انقطاعها عنهم لعدة أشهر، جراء الحصار البحري البريطاني. اتخذ الإنجليز من هذه الرسائل دليلاً على تعاون فخرو مع أعدائهم العثمانيين، فاعتقلوه ونفوه إلى البصرة، مع ابن عمه علي راشد فخرو، حيث أقام في البصرة منفياً لمدة 17 يوماً فقط، لأن القائد البريطاني المحلي أمر بإرجاعه إلى البحرين، كونه ليس من رعايا بريطانيا، وإنما من رعايا البحرين، التي لا سلطة لبريطانيا على شؤونها الداخلية.

في 1918، شارك يوسف فخرو عدداً من تجار البحرين الكبار في كتابة رسالة إلى الحاكم الشيخ عيسى بن علي، يقترحون فيها تأسيس مصرف في البحرين، وهو مشروع لم تكتب له الولادة إلا في عام 1956، حيث كان ولدا يوسف فخرو (أحمد وعبد الله)، ضمن رجال أعمال آخرين ممن أطلقوا أول مصرف وطني تحت اسم بنك البحرين.

وطبقاً لما ورد في مذكرات مستشار حكومة البحرين، سير تشارلز بلغريف، ارتبط يوسف فخرو والمستشار بعلاقات عمل وتعاون وتواصل لخير البحرين، رغم أن تصوراتهما لم تكن دوماً متطابقة. ومما يذكر عن يوسف أيضاً، أنه على الرغم من عدم اشتغاله قط في تجارة وصيد اللؤلؤ، إلا أن محكمة الغوص كانت تحول له بعض القضايا الخلافية للتحكيم بين أطرافها من نواخذه وبحارة، كما أنه كان يباشر حل تلك الخلافات من تلقاء نفسه، قبل وصولها إلى المحاكم، من خلال مجلسه المفتوح أمام الملأ، للنقاش في الشأن العام، وتداول أخبار العالم، وقراءة الصحف العربية الواردة للبحرين من البصرة.

من ناحية أخرى، يذكر ليوسف أنه لعب دوراً هاماً في تأسيس بلدية المحرق عام 1929، والإشراف على موظفيها وأعمالها الخدمية. كما كان ضمن رواد التعليم الأوائل الذين ساهموا في اللجنة التأسيسية لإطلاق أول مدرسة نظامية في البلاد سنة 1919، حيث شغل منصب المسؤول المالي، الذي أشرف على عملية بناء «مدرسة الهداية الخليفية»، وتجهيزها وتوظيف معلميها ودفع رواتبهم. هذا ناهيك عن حفره للآبار الارتوازية، خدمة لعموم الناس.

وحينما دخلت السيارات البحرين، كان الحاج يوسف ضمن أوائل من امتلك واحدة منها، وضمن أوائل من تاجر فيها، بل وأول من استورد سيارة من نوع كرايسلر في منتصف عشرينيات القرن 20. وفي عام 1929، تمكن الرجل من الاستحواذ على وكالة سيارات كرايسلر وبليموث ودودج الأمريكية، من رجل الأعمال اللبناني فرانسيس كتانة. وفي 1932، استحوذ على وكالة سيارات هدسون الأمريكية، ثم استحوذ في عام 1934 على وكالة إطارات دنلوب الإنجليزية.

ما سبق كان إيجازاً لسيرة الجد الأكبر عبد الرحمن وابنه يوسف، صاحب النفوذ والمكانة لدى حكام البحرين، التي وصلت إلى درجة زيارتهم له في منزله، بل واصطحاب ضيوفهم إلى داره، كما حدث خلال زيارة الملك عبد العزيز آل سعود إلى البحرين سنة 1939، أما الحفيد عبد الله (والد المؤلف)، فقد ولد في 11 نوفمبر 1918، الذي صادف يوم انتهاء الحرب العالمية الأولى، وترقب الناس للسلام والازدهار الاقتصادي من بعد كساد ومعاناة. كان ميلاد عبد الله في منزل والده الكبير المطل على مياه المحرق، وكان الابن الرابع لوالدته حصة مراد، من بعد أحمد ومحمد وعبد الله الأول، الذي توفي طفلاً. عاش عبد الله حياة سعيدة بين أفراد عائلته وأقرانه، قبل أن يلتحق للدراسة بمدرسة الهداية الخليفية، على بعد 3 كلم من منزله، ما جعل الأسرة تضع تحت تصرفه حماراً لإيصاله إلى المدرسة كل يوم.

كان عبد الله من الطلبة الأذكياء النابهين، لا سيما في الرياضيات، لكنه لم يتلقَ سوى العلوم والمستويات الدراسية المتاحة آنذاك في البحرين، حيث أنهى المرحلة الابتدائية في عام اكتشاف النفط في البحرين (1932). وعلى الفور التحق بالعمل لدى والده، ليصبح سريعاً أحد رواد العمل التجاري الحديث في البحرين وما جاورها، على مدى سبعة عقود.

اقترن عبد الله بشيخة خامس أبناء تاجر اللؤلؤ خليل إبراهيم المؤيد، من زوجته عائشة الخاجه، سنة 1937، مباشرة بعد تخرجها في مدرسة «عائشة أم المؤمنين» الابتدائية بتفوق لافت، فمهد ذلك لمصاهرات أخرى بين العائلتين التجاريتين.

في عام 1940، أرسل يوسف فخرو ابنه عبد الله البالغ آنذاك 22 عاماً إلى البصرة، ليتولى إدارة أنشطة العائلة التجارية هناك، ويكون عيناً عليها، فأبلى الابن بلاء حسناً، رغم صغر سنه. كان عبد الله يبقى في العراق ستة أشهر متواصلة، ثم يعود إلى البحرين لزيارة أسرته الصغيرة، محملاً بأخبار المدهشات في البصرة، التي كانت أكثر تطوراً وقتذاك. وفي عام 1946، استدعى عبد الله إلى البصرة عائلته الصغيرة، المكونة من زوجته شيخة وابنته الكبرى لولوة وابنه حسن وطفلته ليلى، ليعيشوا معه تحت سقف واحد، حيث أنجبت له زوجته ولده عصام في 1947، وذلك قبل أن يعودوا إلى البحرين في العام التالي، حيث رزق عبد الله بمولودة جديدة، سماها بثينة، ثم عادل ويوسف.

ومما لا شك فيه، أن عبد الله اكتسب من عمله في العراق خبرة تجارية لا تقدر بثمن، وارتبط فيها بعلاقات مفيدة مع تجارها المحليين والوافدين. فعلى سبيل المثال، كان خلال فترة الحرب التي شحت فيها المواد الغذائية، يشتري الأرز من الكويتي محمد ثنيان الغانم، ويبيعه في البحرين على يوسف أكبر، ويبيعه في دبي على محمد إبراهيم الباكر، ويشتري البن من جاسم شاهين الغانم في اليمن، ويبيع بعضه في العراق، ويصدر الباقي إلى البحرين. وشملت البضائع التي تعامل فيها، علاوة على ما سبق، الشاي والفحم والسمن والسمسم والكبريت والسجائر والحديد والليمون المجفف والتمور والفستق والقطن والمنسوجات والجلود والصابون والبهارات، وقطع غيار السيارات وإطاراتها. وبسبب مكانته التجارية في العراق، نشأت بينه وبين السياسي العراقي نوري باشا السعيد، علاقة امتدت إلى الملك فيصل الثاني، الذي أنعم عليه وعلى أخيه أحمد بوسام، إبان زيارة جلالته إلى البحرين عام 1954.

لقد أحب عبد الله العراق والعراقيين، إلى درجة أنه فكر في طلب الجنسية العراقية، قبل أن يصرف النظر، خوفاً من أن ينظر إليه كمتطفل أجنبي.

بعد وفاة والده يوسف في مارس 1952، شارك عبد الله إخوانه أحمد ومحمد وعلي وإبراهيم، في تأسيس كيان تجاري، حمل اسم «شركة أحمد فخرو وإخوانه»، وفق حصص متساوية مما ورثوه عن والدهم. وعلى حين ترأس أحمد الشركة، باعتباره الأكبر سناً والألمع اسماً، كان عبد الله هو دينامو العمل الفعلي، ومحرك أنشطة الشركة، التي اشتملت على الاستيراد والتصدير والوكالات التجارية لطائفة عريضة من السلع والأجهزة، علاوة على الاستثمار العقاري وأعمال التأمين، ووكالات الشحن والسفر. وفي الوقت نفسه، كان عبد الله يدير مع أخيه أحمد صندوق فخرو للأعمال الخيرية، الذي خصص له والدهما يوسف ثُمن ثروته قبل وفاته.

وفي عام 1958، قرر الإخوة الشركاء تصفية شركتهم بالتراضي، وحلت مكانها شراكة ثنائية بين أحمد وعبد الله، مع قيام محمد وإبراهيم وعلي، بتأسيس شركتهم الخاصة باسم «شركة محمد فخرو وإخوانه».

لاحقاً، تقاعد محمد، وجعل ابنه جاسم (1934 ــ 2017) ينوب عنه، بينما آلت القيادة إلى علي بن يوسف فخرو، إلى حين وفاته عام 2008، حيث خلفه ابنه شوقي. وبعد وفاة أحمد في 1979، استحوذ أخوه عبد الله على نصيب ورثته في شركتهما الثنائية بالشراء، بعد تقييم محايد لأصول الشركة. وفي عام 1974، انضم عادل (مؤلف الكتاب)، إلى شركة والده، مسلحاً بما درسه في لندن ومانشستر وبيروت، فقام بتطوير أعمالها، وإضافة مجالات جديدة إليها، كالاستثمار في التعليم والوجبات العالمية السريعة.

على العكس من الجيلين الأول والثاني من العائلة، تلقى أبناء الجيل الثالث العلوم الحديثة في مدارس وجامعات بيروت والقاهرة وبغداد وبريطانيا، وتخرجوا متخصصين أكاديمياً في شتى حقول المعرفة، بل ومعتنقين أيضاً مذاهب سياسية متنوعة، ومتضادة أحياناً. فمثلاً، تماهى علي محمد فخرو إبان دراسته ببيروت، مع الأفكار البعثية، وصار أحد أقطابها الكبار، ومؤسس فرعها في البحرين، وانضمت ليلى عبد الله فخرو إلى حركة القوميين العرب، ومارست نشاطاً سياسياً.

Email