تمثل القيم الأصيلة ركيزة جوهرية في حياة الفرد والأسرة والمجتمع، فهي تدفع سلوك الإنسان إلى المسارات المضيئة، التي تحفظ له مصالحه الكبرى العاجلة والآجلة، وتجعله عنصراً إيجابياً في محيطه الأسري والمجتمعي والوطني والإنساني، مفعماً بالرحمة والتكافل والحكمة والاتزان والسمو الفكري والأخلاقي، متمسكاً بثوابته الدينية والوطنية، متحلياً بالعقيدة الصافية والمواطنة الصالحة والسلوك القويم.
ولا شك بأن التمسك بهذه القيم صمام أمان، وخاصة عند التحديات والأزمات، فلا يسقط الإنسان في بئر سحيقة من الحيرة والاضطراب والتذبذب والضياع والانفلات بسبب أزمات أو مشكلات خاصة، لأنه يتمسك بقيم الصبر والتفاؤل والأمل والاحتساب عند الله تعالى والأخذ بأسباب البحث عن الحلول والانفراجات والإيمان بقدر الله تعالى وحكمته، ولا ينصرم رباط الأسرة وينفرط عقدها نتيجة ظروف أو أزمات طارئة، لأن كل فرد من أفراده، ابتداءً من الزوجين، ومروراً بالأبناء، يتمسك بقيم التلاحم والتكاتف والتآزر والتفاهم والتشارك في إدارة السفينة الأسرية بحكمة، ولا ينهدم الوطن على من فيه بسبب تحديات داخلية أو خارجية عارضة، ولا يختل نظام المجتمع ويتزعزع أمنه واستقراره بسبب ظروف ألمّت به، وتُلقي عليه غيوم الفرقة والاختلاف والتناحر ظلالها السوداء المعتمة، لأن الجميع على اختلاف الفئات والشرائح يتمسك بقيم المواطنة الصالحة والتلاحم الوطني والتكاتف المشترك للخروج من تلك التحديات والأزمات.
ولا تقتصر أهمية مبدأ الثبات على كونه صمام أمان في الأزمات والملمات فقط، بل يمتد تأثيره إلى كونه محركاً ودافعاً وأرضاً صلبة للرقي والإنجاز والتطور المستدام ونهضة المجتمع ثقافياً وقيماً واجتماعياً واقتصادياً وغير ذلك، فلا يمكن لهذه المتغيرات الإيجابية أن تتصاعد إلا وفق مبادئ ثابتة، فالطموح والإصرار على الإنجاز وإدارة الذات والوقت والجهد والموارد كلها قيم ثابتة، لها نتائجها المثلى في تحقيق الإنجازات بشكل مستمر، فبالثبات على قيمة الطموح تتوالى الإنجازات المتجددة في شتى المجالات، بما في ذلك على المستوى الفردي والأسري، فضلاً عن المستوى المجتمعي والوطني.
ومن أعظم القيم وأجلها التوكل على الله تعالى، واستمداد العون منه، وإحسان الظن به، واليقين بفضله العظيم، وكذلك الإيمان بإمكان التغيير للأحسن والجد والمثابرة وعدم اليأس والإحباط، ولذلك حثنا ديننا الحنيف على سلوك الطريق الأقوم، والرجوع عن الخطأ إلى الصواب، وعن الذنب إلى الطاعة، وانتقاء القول الأحسن والفعل الأجمل، وكل ذلك تغيير في حال الإنسان إلى ما هو أرقى وفق مبادئ ثابتة، وبهذه الثنائية التي تتمثل في ثبات القيم وتطور الحال يمضي الإنسان على أرض الواقع في تعامله مع الثقافات الأخرى جامعاً بين الثقة والاعتزاز وبين الانفتاح والمواكبة بل والمنافسة والريادة.
إن الجيل الحاضر أحوج ما يكون إلى التزود من هذه الثنائية، التي تجعله يسير باتزان على نور وبصيرة، فلا تهتز عقيدته وهويته ووطنيته وأخلاقياته الراقية أمام أي استقطاب لفكر دخيل أو سلوك مشين أو ثقافات سلبية، ولا تعتريه عقدة نقص أو شعور بالدونية بسبب من يشوه أو ينتقص أو يثبط، وفي المقابل لا يحمله ذلك على الانكفاء على الذات والاستعلاء على الخلق وإغلاق الأعين عن مكامن القوة والتفوق التي تميز بها غيره، بل يكون عضواً فعالاً في وطنه وتحت ظل قيادته لبناء حضارة رائدة راقية تهدف إلى خير البشرية.
وإذ نتحدث عن الثبات على القيم فإن من أكبر مهدداته المعاصرة المغالاة والإفراط في النسبية، بحيث لا تبقى هناك يقينيات ولا حقائق ولا صواب وخطأ، نتيجة تصورات مغلوطة عن التسامح أو غيره، ولأن ذلك خلاف الواقع والمنطق والفطرة فإن النتائج تنقلب عكساً كردة فعل، فيرتد الإفراط في النسبية إلى تعصب فكري وأيديولوجي وتطرف عرقي أو قومي أو غيره، وهو ما نلاحظه في بعض المجتمعات التي انتقلت من أيديولوجيات متطرفة إلى نسبية مفرطة، لترتفع فيها مرة أخرى رايات التطرف بأشكال جديدة، لافتقادها إلى بناء مجتمعي ثقافي متوازن.
إن الثبات على القيم مبدأ أصيل، يجعل الإنسان يمضي في عالم المتغيرات بفكر مضيء ومنهج راسخ وأخلاق ثابتة، تشع في جنباتها الرحمة والعلم والحكمة كمنارات ساطعة تضيء للبشرية جمعاء.