مسار التنمية ومسار المواجهة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تشهد العلاقات الإقليمية والدولية تحولات كبرى، وخصوصاً في محركاتها الأساسية، ورغم أن المحرك الرئيس لهذه العلاقات بقي ذاته، أي مصالح الدول والمجتمعات، فإن تغليف هذه المصالح هو الذي دخلت عليه تغييرات لافتة.

وكانت مساهمة د. أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات العربية المتحدة في منتدى الإعلام العربي - الذي نظمه نادي دبي للصحافة - مهمة في تحديد الهوية الجديدة للعلاقات بين الدول والمجتمعات، وبالأخص في منطقتنا العربية.

وفي استعراضه لأسس وأهداف دبلوماسية دولة الإمارات العربية المتحدة، أكد د. أنور قرقاش ضرورة ومحورية فكرة «تعزيز التعاون العربي المشترك بعيداً عن الأسس الأيديولوجية القديمة»، مبيناً أن قاعدة التعامل مستقبلاً مع دول المنطقة هي المحاولة الدائمة للبحث عن المشترك من المصالح بين الدول والمجتمعات.

ويعتبر هذا التمشي المحمود لدولة الإمارات نتيجة منطقية لمعاينة الفشل الذريع لبناء العلاقات بين الدول والمجتمعات على المعطيات السياسية والأيديولوجية التي لم تحقق درجة عليا من الاستقرار المجتمعي تساعد على بناء أنماط تنموية خلاقة، وفاقمت في مقابل ذلك الخلافات بين الدول والمجتمعات وعمقتها وساهمت في تغذية شتى أشكال النزعات.

وتفترض عملية بناء العلاقات الثنائية ومتعددة الأطراف على المشترك بين الدول والمجتمعات، التحرك في منطقة «جيواقتصادية» أكثر منها «جيوسياسية» وشروط هذه العملية هي توفر عناصر ستة هي «الاستقرار السياسي، وانتهاج اقتصادات حرة، وبناء مجتمعات متحررة وبناء علاقة جدية مع الشباب وتركيز نظام قضائي موثوق به، في إطار دولة القانون والمؤسسات»، مثلما عدد ذلك المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات العربية المتحدة.

وإذا كانت تلك هي شروط بناء علاقات على المشترك بين الدول والمجتمعات، فإن وسائل تحقيق ذلك هي «تطوير التنافسية الداخلية، والشراكات الاقتصادية، وتركيز الممرات الاقتصادية المختلفة، وتنمية الاقتصاد من خلال مسارات مختلفة، كالمياه والذكاء الاصطناعي، الطاقات المتجددة والبديلة».

وإن هذا التمشي يفترض وجود شركاء ومشاريع مشتركة وهو ما يفسر أن «الجيواقتصادي بدأ يطغى تدريجياً على الجيوسياسي» بما رسخ بصورة نهائية القناعة بأن العوامل السياسية والأيديولوجية لم تساهم على مدى التاريخ جدياً في بناء المشترك بين الدول والمجتمعات وإيجاد الحلول للمسائل السياسية الخلافية المستعصية، وهو ما حتم «البحث عن المشترك في الاقتصاد» واعتبار ذلك أولوية الأولويات.

ويستحضر المرء بالمناسبة رؤية الزعيم التونسي الراحل الحبيب بورقيبة الذي كانت تربطه بالمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، علاقات مبنية على رؤى استراتيجية أثبتت مع الأيام والسنوات جدواها، حيث كان بورقيبة يعتبر أن تقوية المصالح المشتركة وتمتينها وتطويرها هو الأساس المنطقي والمعقول لتوحيد الدول والمجتمعات وبناء أنماط تنموية تحقق الرفاه للمواطن العربي، بعيداً عن أحلام وأوهام المثل الطوباوية في الوحدة غير قابلة التحقيق.

وكانت الفكرة الرئيسية التي قادت الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة هي أنه من المستحيل التوحد الجدي على قاعدة انعدام الموارد وفي ضوء الغياب التام لنمط تنموي قادر على خلق الثروة، وكان يردد دوماً أن «جمع الأصفار يساوي دوماً صفراً».

ولا نبالغ في شيء إذا أكدنا أن الرؤية الإماراتية المعاصرة للتنمية وللعلاقة بين الدول ورثت جل إيجابيات التجارب الناجحة العربية على قلتها، وتجاوزت بالتوازي سلبياتها، ما مكنها من تقديم رؤية متكاملة ومتجانسة مع تاريخ هذه المنطقة العربية ومنسجمة بالكامل مع متطلبات العصر من ناحية المحتوى التنموي الحديث والشكل السياسي لتنظيم الدولة والمجتمع. د. أنور قرقاش أكد أن شرط كل الشروط لتحقيق هذه الأهداف هو «حتمية الحضور القيمي في السياسة الخارجية.

وفي الداخل ضرورة تمكين المرأة في عديد القطاعات، وتأصيل قيم التسامح وحقوق الإنسان والديمقراطية، وتجاوز لغة الأرقام الجافة وبناء مجتمع يأخذ في الاعتبار تنوع المجتمع». إن العلاقات بين الدول والمجتمعات «لا سقف لها» وإن المطلوب العاجل هو تغليب المسار التنموي على مسار المواجهة، وإن المنطق السليم يقتضي الأخذ في الاعتبار الحذر وتوفير الحماية الضرورية عند الضرورة والاقتضاء.

Email