شخصيات تحت المجهر

عثمان الخويطر.. من حالم بالعمل في أرامكو إلى كبير موظفيها

ت + ت - الحجم الطبيعي

قصة المهندس عثمان الخويطر تستحق أن تروى للأجيال الجديدة لأن بها الكثير من صور الكفاح والتحدي من أجل تحقيق الطموحات وعدم الاستسلام عند أول إخفاق، ناهيك عن أن سيرته هي جزء من سيرة التحولات الاجتماعية والثقافية المدهشة التي شهدتها السعودية منذ اكتشاف النفط في منطقتها الشرقية سنة 1938.

والجميل أن الرجل عمد إلى تسجيل كل ما مر به من تجارب في كتاب أصدره عام 2008 تحت عنوان «رسالة إلى أحفادي»، مع إهداء يقول فيه: «أهدي إليكم أحفادي هذه الذكريات التي نسجتها بفكري وسطرتها بيدي وسجلتها بقلمي مكتنزة بالصواب والخطأ، مفعمة بالنجاح والفشل، مليئة بالمرارة والأمل، شاهدة على طموح جيل وجدية أبنائه لتعلموا أنكم بالعلم ستحققون المجد الذي تنشدون، وبالعمل ستنالون الشرف الذي تستحقون، فالعلم والعمل هما سبيل تقدم الأمم وسر نهضتها».

ولد عثمان حمد عثمان حماد الخويطر بمدينة عنيزة سنة 1933، ونشأ في جو أسري دافئ وسط عائلته الكبيرة المنحدرة من قبيلة بني خالد. كانت ولادته لأبيه المولود في 1908 والمتوفى في 1986، ولأم هي منيرة العبد العزيز المطوع المتوفية سنة 1988.

تحدث الخويطر عن والده فقال إنه كان فلاحاً وفي الوقت نفسه إماماً لمسجد المدينة فلقب بالمطوع، ثم وصفه بأنه كان متنوراً نسبياً إذا ما قورن بمجايليه، مؤكداً أنه استفاد من سفره في شبابه إلى البحرين، حيث عاش وعمل لمدة 3 سنوات، ثم سفره إلى الحجاز، حيث عمل كرجل أمن داخل المسجد النبوي. وأخبرنا أن من آيات تسامح والده وتنوره أنه، على خلاف مجايليه، آمن بأهمية التعليم فأرسل بناته إلى المدارس الحكومية بمجرد افتتاحها في عنيزة سنة 1962، ولم يأبه بالأصوات التي عارضت الفكرة. كما تحدث الخويطر عن والدته فقال إنها كانت من النساء اللواتي تميزن بالنضوج الفكري ورجاحة العقل والصبر على النوائب، ما انعكس على طريقة تربيتها لأبنائها.

انتقل بعدها للحديث عن مشاهد من الظروف الاجتماعية الصعبة السائدة في محيطه زمن صباه وشبابه في عنيزة فأتى على ذكر ما كانوا يتناولونه من طعام بسيط وقليل، وما كانوا يلبسونه من ثياب لا تتغير إلا كل عام دون أن ترافقها ملابس داخلية أم أحذية. علاوة على ذلك تطرق إلى بعض العادات والتقاليد السائدة في مجتمعات القصيم آنذاك، ولا سيما تلك المتعلقة بالصحة والعلاج، فقال إن من مظاهرها نسب كل علة يصاب بها المرء إلى العين الحاسدة، وبالتالي علاجها عن طريق الرقية أو الكي. أما أكثر الأمراض شيوعاً في زمنه فقد كان مرض الجدري المخيف الذي ما كان أن يسمع به أحد حتى يهجر المدينة إلى خارجها اتقاء من شره ليقع هناك فريسة لعصابات السلب والنهب، على حد قوله.

في تلك الأجواء المليئة بالأمراض وانعدام الأمن والخزعبلات نشأ وترعرع بادئاً حياته بالعمل مع أبيه في الفلاحة طوال النهار، فلم يمارس في طفولته أي هوايات سوى ما كان شائعاً وقتها في مجتمعه البسيط مثل صيد الجراد، كما لم يلتحق بالمدارس النظامية إلا في حدود التاسعة أو العاشرة، وإنْ درس القرآن في الكتاتيب التقليدية.

وحينما التحق مع أخيه بالمدرسة الابتدائية، سرعان ما غادرها بعد أكثر من سنة كي لا يثقل بمصاريف ومستلزمات تعليمه على والده الذي كان وقتذاك قد تردت أحواله المالية بخسارة أرضه الزراعية وحيواناته التي كانت مصدر رزقه الوحيد.

فكر الخويطر في طريقة يستطيع بها مساعدة والده، فراح يبحث عن أي عمل مناسب في بلدته فلم ينجح، وهو ما دفعه للسفر إلى مكة في سن الثالثة عشرة بحثاً عن الرزق، متحملاً فراق أهله لأول مرة وعناء الطرق غير المعبدة والسفر في رحلة جماعية بواسطة سيارة «لوري» مع أناس لا يعرفهم.

20 ريالاً

في مكة أقام عند أحد أقاربه الذي ساعده في الحصول على وظيفة لدى إحدى العائلات مقابل 20 ريالاً في الشهر، على أن يعمل نهاراً في محلها التجاري وليلاً في منزلها مع الإقامة والطعام. وخلال سنة كاملة من العمل الشاق المتواصل، تمكن صاحبنا من جمع 200 ريال من الفضة، ففرح فرحاً عظيماً، وقرر أن يعود إلى عنيزة بعدما استبد به الشوق لأهله، فعاد محملاً بحصيلة كده ومعها شيئاً من لهجة أهل مكة وبعض عاداتهم، ليلتحق بمدرسته الابتدائية ويواصل تعليمه. حيث تم قبوله بالصف الثالث ابتدائي وأكمل الصف الرابع فالصف الخامس، لكنه لم يستمر للحصول على شهادة التخرج، إحساساً منه مرة أخرى بأن دخل والده لا يكفي لإعاشة الأسرة، وأن عليه الرحيل إلى خارج عنيزة للبحث عن عمل.

وقتها كان يسمع قصصاً كثيرة من معارفه وأترابه عن شباب سافروا إلى المدن التي فيها النفط، في الظهران والدمام، حيث إنهم عادوا وهم في أحسن حال، فقرر أن يجرب حظه ويتجه شرقاً هذه المرة. وهكذا استدان تكاليف رحلته إلى الظهران من أحد الميسورين، واستأذن والديه اللذين باركا خطوته وأمداه بالنصائح.

رحلته إلى الشرق كانت متعبة واستغرقت منه نحو خمسة أيام، لكن خاتمتها كانت مفرحة بوصوله إلى الخبر ووقوع بصره لأول مرة على أنماط حياة سكانها العصرية، واستماعه إلى شباب يتحدثون الإنجليزية واهتدائه إلى معلومات عن شركة أرامكو وكيف أنها توظف الشباب السعودي وتدربه وتعلمه الإنجليزية والعربية وتدفع له رواتب مجزية مع السكن. هنا قرر الخويطر أن يلتحق بأرامكو، واثقاً بأنها ستقبله كعامل فيحقق أحلامه. لكن ثقته وأحلامه تلك اصطدمت بأمر لم يكن يعره أي أهمية. فبعد أن اجتاز بنجاح جميع اختبارات التوظيف، سقط في فحص النظر بسبب ضعف في عينه اليسرى.

خرج الخويطر من مكتب التوظيف وقد طارت أحلامه في أن يتحول لإنسان مرموق براتب معتبر، فلم يجد مفراً من البحث عن أي عمل آخر لا يتطلب فحص النظر كي لا يعود خائباً إلى أهله. وشاءت الأقدار أن يحصل على فرصة عمل متواضعة داخل دكان في قرية «رأس مشعاب» على مسافة نحو 300 كم من الظهران براتب 70 ريالاً في الشهر، فقبل بالعرض مرغماً. وهناك في رأس مشعاب، التي كانت قد أنشأت على البحر من أجل استقبال وتحميل أنابيب خط التابلاين، عمل ليلاً ونهاراً داخل دكان كان يستخدمه أيضاً مكاناً لإقامته، وراكم من خلال احتكاكه بالناس والاستقلال بحياته تجارب ثمينة في البيع والشراء والتوفير والاعتماد على الذات.

بعد عام من العمل المتواصل هناك، قرر صاحبنا أن يجرب حظه في عمل آخر، فالتحق بالعمل كعامل أجير لدى أحد المقاولين في رأس مشعاب مقابل العمل ثماني ساعات بأجر يومي مقداره 4.5 ريالات. لكنه بعد ستة أشهر من العمل في مناخ صعب، والسكن داخل خيام جماعية تنقصها وسائل الراحة والمياه النظيفة، والاشتراك مع زملاء السكن في وجبات بسيطة من التمر والخبز والأرز، والعمل اليومي في تحميل الكرينات بالأنابيب وتنظيف أرضية الورش من بقايا الزيت والمخلفات، ترك العمل مجدداً من أجل مغامرة جديدة ومكسب مالي أكبر، حيث هداه تفكيره إلى شراء بضائع بالجملة من الأحساء وبيعها مفردة في رأس مشعاب. يقول الخويطر إنه كان يقطع الطريق إلى الأحساء عبر الظهران فيستريح في الأخيرة عند بعض معارفه من عمال أرامكو القاطنين في «سعودي كامب»، أما في الأحساء فكان يستأجر سريراً خشبياً في أحد المقاهي الشعبية وينام عليها ليلته مقابل نصف ريال من دون أي وجبات.

لم يستفد الرجل شيئاً من تجارته تلك، إذ أتى حريق هائل شب في رأس مشعاب على بسطته وبضائعه، لكنه لم يصب بأي أذى، فحمد الله على تلك النعمة ومضى إلى مغامرة جديدة، حيث قبل بإدارة محل تجاري لأحد أقاربه بمدينة عرعر على بعد ألف كم من رأس مشعاب، فسافر إلى هناك بواسطة إحدى الشاحنات الكبيرة الحاملة لأنابيب البترول الضخمة.

سنة كاملة

في عرعر عاش سنة كاملة شعر فيها ببعض الراحة والألفة والترفيه. وبانتهاء السنة قدم استقالته لرب عمله واستلم منه مستحقاته وراح يفكر في استثمارها في مشروع تجاري جديد. وبالفعل دخل بعد ذلك في مشاريع تجارية متتالية عدة، لكن جميعها باءت بالفشل والخسارة، فقرر العودة إلى عنيزة لبعض الوقت.

ظل قلبه معلقاً بالعمل لدى أرامكو، حيث كان شوقه للتعليم وإجادة الإنجليزية يلح عليه بتكرار تجربة التقدم إليها للتوظيف، على أمل أن يكون حظه هذه المرة أفضل. لكنه سقط مرة أخرى في فحص النظر.

هنا، ووسط حيرته وغربته وخلو جيبه من الدراهم وافتقاره للمعارف والأصدقاء، صادف أن التقى في الدمام بابن عمته «إبراهيم العبد العزيز البسام» الذي أخبره أن أمانة الجمارك التي يعمل بها لديها وظائف شاغرة تناسبه.

تقدم لشغل إحدى تلك الوظائف في أوائل الخمسينيات وكان عمره آنذاك 21 عاماً فتم قبوله دون فحص نظر وعين بوظيفة مساعد بقسم المحاسبة براتب 275 ريالاً في الشهر. وهكذا عاش الخويطر في الدمام قنوعاً براتبه البسيط وإقامته داخل مسكن قديم مع زملاء عمله وتقاسمهم نفقات الطعام وترويحهم عن أنفسهم مساء بالتردد على المقاهي الشعبية، وفي العطلات بالسفر إلى البحرين بحراً. لكن طموحه لمواصلة تعليمه لم يتوقف، فتفتق ذهنه عن فكرة استئجار معلم خاص يساعده ويساعد زملائه ممن لم يكملوا الابتدائية على دراسة مقررات الصف السادس الابتدائي كي يتقدموا للامتحانات النهائية وفقاً لنظام المنازل. لكن صدمته كانت كبيرة حينما ظهرت النتائج ووجد نفسه راسباً في مادة العلوم، بينما بقية زملائه في عداد الناجحين. فأعاد الامتحان في تلك المادة في الدور الثاني ونجح.

المرحلة التالية من حياته شهدت زواجه في عنيزة وإنجابه لابنة سماها نوال تأثراً ببطلة رواية «في بيتنا رجل» لإحسان عبد القدوس التي كانت ضمن قراءاته، ثم رزق بابن سماه نبيل تأثراً بقصة سمعها من الإذاعة المصرية. كما شهدت الفترة عملاً دؤوباً متواصلاً منه لإنهاء دراسته في المرحلتين المتوسطة والثانوية، فكان يقضي العطل الصيفية في الدراسة المكثفة ويؤدي امتحاناتها بنجاح، جامعاً كل سنتين في سنة تقريباً، ويحصل على المكافآت التي كانت تصرف للطلبة آنذاك بمبلغ 150 ريالاً كل شهر، ما ساعده في مواجهة أعبائه الأسرية. وعليه فقد أنهى المرحلتين المتوسطة والثانوية في أربع سنوات بدلاً من ست سنوات، متحدياً كل العراقيل البيروقراطية والظروف المعيشية الصعبة.

وبحصوله على شهادة التوجيهية العامة عام 1959، خطط ليدرس الطب كخيار أول والهندسة كخيار ثان إذا ما حصل من وزارة المعارف السعودية على بعثة إلى مصر، لكن لحسن حظه صدر قرار في تلك السنة أن تكون البعثات إلى أمريكا، وكان اسمه ضمن المبتعثين بسبب تفوقه. وعلى الرغم من الضغوط التي تعرض لها والده المحافظ من قبل جماعته من المتشددين الذين طالبوه بمنع سفر ابنه إلى «بلاد الكفر»، إلا أن والده دافع عن الفكرة.

شكل ذهابه إلى الولايات المتحدة لدراسة هندسة البترول، منعطفاً حاداً في مستقبله. كيف لا وسوف ينتقل من بلدة صغيرة وحياة معيشية صعبة وأعمال روتينية لا تتطلب مهارات ومغامرات تجارية فاشلة إلى أقصى بقاع الأرض لدراسة علم جديد على نفقة الدولة في جامعة تكساس الشهيرة بمدينة أوستن.

سافر الخويطر من الرياض إلى نيويورك جواً عبر القاهرة ولندن ومنها إلى أوستن، حيث أمضى عاماً كاملاً في دراسة الإنجليزية وفق برنامج مكثف، ثم أكمل مقررات دراساته الجامعية خلال خمس سنوات وتخرج في منتصف عام 1964 حاملاً بكالوريوس هندسة البترول. وعلى إثر ذلك عاد إلى وطنه وقد عركته التجارب والصدمات الحضارية، فتم تعيينه موظفاً بوزارة البترول التي وصف عمله بها بـ«مضيعة للوقت». ولهذا تقدم مع زملائه المهندسين بطلب للسماح لهم بالانتقال إلى إحدى شركات النفط العاملة بالمملكة من أجل اكتساب الخبرات الميدانية، فتمت الموافقة على طلبه، الأمر الذي فتح له أبواب تحقيق حلمه في الالتحاق بشركة أرامكو دون فحص النظر.

وفي أرامكو راح يتدرج في الوظائف والأعمال المتنوعة في الظهران وبقيق ورأس تنورة إلى أن تولى قبل تقاعده في عام 1996 بسنة منصب نائب الرئيس لهندسة البترول والحفر والكمبيوتر.

Email