الحكومة الأمريكية و«غوغل».. القيم الرأسمالية أولاً

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحسب للقائمين على شؤون الاقتصاد الأمريكي وشجونه، فقهاً ومؤسسات، أن انشغالهم بمعالجة التحديات المستجدة لدور بلادهم ومكانتها الريادية على الصعيد الخارجي لم يصرفهم عن الاهتمام بحراسة الأسس والمرتكزات القيمية والقواعد القانونية، التي يقوم عليها هذا الاقتصاد وتفاعلاته في الداخل.

أهل الحل والعقد الاقتصادي في الولايات المتحدة لا يغفلون لحظة في هذه الأيام عن متابعة التداعيات الراهنة والمحتملة لقضايا تحلق بإلحاح في الآفاق العالمية من قبيل التمدد والنمو المتسارع للاقتصاد الصيني، وصولاً إلى تغلغل منتجاته في تضاعيف المتاجر والبيوت الأمريكية وتردد بعض الحلفاء والأصدقاء المقربين في الانصياع لرغبات واشنطن بتشديد المقاطعة بحق الخصم الروسي، الهادف بقوة إلى إزالة القطبية الأمريكية الأحادية الرابضة على قمة النظام الدولي لقرابة أربعين عاماً.

لا تفصل نخب الحكم والسياسة في الولايات المتحدة بين مقاومة الرياح السلبية العاتية الناشئة عن هذه المتغيرات الكبرى ومثيلاتها في البيئة الدولية، وبين الرعاية الواجبة لأصول ومفردات العقد الاجتماعي والاقتصادي الحاكمة للتجربة النظامية الأمريكية الليبرالية برمتها. وتقع مكافحة الاحتكار بكل صوره، سواء اضطلعت به شركات كبرى أو كارتيلات (التي تعني اتفاق مجموعة من الشركات على منع المنافسة فيما بينها)، في صلب هذه القواعد والمفردات.

المعنى هنا باقتضاب أن الحفاظ على الأجواء التنافسية الحرة، الملتزمة بأطر حقوقية وقانونية صارمة، لجهتي الإنتاج والاستهلاك، يمثل أحد أهم أقانيم النظام الرأسمالي الأمريكي، بل والحلم الأمريكي الاقتصادي ذاته، ولسنا بحاجة للتذكير بأن هذا الأقنوم، أي التنافس الحر، يستطرد إلى الجوانب والأنشطة الأخرى الموصولة بتفاعلات الحياة السياسية ومساقاتها.

ولا شك أن من لا يعي هذه القناعة ولا يسبر مضامينها العميقة يضل الطريق في محاولة تفسير أبعاد القضية المثارة من جانب قسم مكافحة الاحتكار بوزارة العدل الأمريكية، ضد المجموعة التكنولوجية الجبارة المعروفة بشركة «غوغل»، والقصة بإيجاز أن المدعي الحكومي يتهم «غوغل» باحتكار نحو 90 % في مجال البحث على شبكة الإنترنت، وبالتالي تهيمن على أسواق الإعلانات الرقمية، وذلك بعقد اتفاقات مع شركاء المتصفحات والهواتف مثل «آبل» و«سامسونغ» و«أوبرا» و«موزيلا»، ويذهب الادعاء إلى أن هذه «الصفقات» تتعارض مع حرية التنافس وتطرد المنافسين من سوق أعمال البحث، ومن ثم تؤدي إلى تعطيل التجديد والابتكار وتحسين الإنتاج في مجال تتصاعد أهميته يوماً تلو الآخر.

اللافت في منطق الادعاء أنه يضع يده على السبب الجوهري للدفاع عن «حرية المنافسة» في التجربة الأمريكية، بل وفي عموم النظم الرأسمالية، وهو أنها تقاوم الكسل البحثي وتستحث المعنيين، منتجين ومستهلكين، على الارتقاء بالأداء وتجويده. نفهم هذا من إشارة المدعي العام «بالنظر إلى احتكارها للسوق، فإن «غوغل» تخنق الإبداع، فهي ليست مضطرة إلى تحسين محرك البحث الخاص بها للحفاظ على حصتها المضمونة».

الاشتباك القائم بين الدوائر الحكومية الرقابية المعنية وبين «غوغل»، وما يتصل به من مناظرات ومجادلات ودفوع، ينطوي على رسالة لكل من يعنيهم استشراف مدى صلابة الفكرة الرأسمالية ومبادئها في أقوى الدول أوالاقتصادات الراعية لها، فبين يدي هذا الاشتباك لا تقاوم الدولة الأمريكية فقط تغول «غوغل» واستقواءها على المنافسين، وإنما تدافع أيضاً عن كينونة هذه الفكرة وعن تفعيل الأطر القانونية الحامية لها. ونزعم أن افتقاد معظم الدول التي تبنت الفكر الاشتراكي أو الشيوعي ذاته لهذا المشهد الأمريكي هو أحد أهم عوامل شحوب هذا الفكر، ثم تصدع النظم القائمة عليه في هذه الدول.

قضية «غوغل»، بتفاصيلها المعلنة والمستترة، تظل في التحليل الأخير أزمة كاشفة وذات دلالة معتبرة على استعصام القطب أو النظام الرأسمالي الأكبر بمثله ومبادئه وأيديولوجيته. وليس لدينا ما يسمح بالاعتقاد بأن هذا النظام سيتهاون في حق هذه المثل والمبادئ، لا مع «غوغل» ولا مع غيرها. الأرجح أن النظام سوف ينال حقوقه وحقوق فكرته، مستخدماً هراواته الفقهية والقانونية الكثيرة.

Email