«الراب»... موسيقى من رحم المعاناة

ت + ت - الحجم الطبيعي

بينما أراقب امتحان نهاية الفصل الدراسي الماضي، لاحظت طالبة ترتدي قميصاً بني اللون مطبوعاً عليه باللون الأبيض صورة كبيرة لوجه مطرب الراب الراحل توباك شكور.

ولأن شكور رحل عن عالمنا بمنتصف التسعينات، قلت لنفسي ربما أعجب القميص تلك الفتاة الصغيرة فاشترته دون أن تعرف صاحب ذلك الوجه. ولِمَ لا، فكثير من شبابنا يرتدون اليوم ملابس مطبوعاً عليها صور لآخرين من المشاهير في عالم السياسة دون أن يعرفوا من هم. لذلك، وحين همت الفتاة تغادر القاعة، سألتها «من صاحب ذلك الوجه المطبوع على قميصك؟». فنظرت لي وقد بدت ملامحها وكأنها فوجئت بتلك التي تعيش في هذا العالم ولا تعرف توباك شكور، وأجابت باستنكار «إنه توباك».

تأملت الموقف برمته فاستدركت. فهناك فارق كبير بين توباك شكور وغيره ممن لا يعرفهم هذا الجيل. فشكور جزء من ظاهرة تؤكد أن المعاناة تصنع العالمية. فجيل فتاتنا في أرجاء المعمورة مولع بموسيقى الراب ومنغمس في ثقافة الهيب هوب، رغم أن هذا الجيل قد لا يعرف أصولهما ولا ما وراءهما من معاناة.

فموسيقى الراب، كجزء من ثقافة الهيب هوب عموماً، التي يحتفلون هذه الأيام بيوبيلها الذهبي، ظاهرة شديدة الجدلية. فالكثيرون يعتبرونها تحض على العنف وتفسد الذوق العام للشباب. لكن هذا الجدل نادراً ما يتطرق لدلالات الظاهرة وأصولها والسبب وراء جذبها للشباب من اليابان لهولندا، ومن البرازيل لجنوب أفريقيا.

وموسيقى الراب نشأت من رحم معاناة السود الأمريكيين، مثلها مثل موسيقى الجاز. فكلتاهما أداة لمقاومة القهر والتمييز العنصري. والسياق الأمريكي الذي ظهرت فيه موسيقى الراب له علاقة وثيقة بجاذبيتها حول العالم. فرغم النجاح المحدود الذي حققته حركة الحقوق المدنية في الستينات، كان رد الفعل المضاد لها شديد القوة والعنف. ومع بداية السبعينات، بدأ التراجع المنظم عن مكتسباتها. وهو التراجع الذي أخذ أشكالاً متعددة لا تزال تجري على قدم وساق.

وبوصول السود لعشرات المناصب المنتخبة في أعلى مراتب الحكم، صاروا طبقة قائمة بذاتها، فأغلقت دونهم القنوات المؤسسية، خصوصاً في وجه الفقراء السود الذين استحال تمثيلهم في نظام يقوم على جماعات المصالح القوية، وتمويل الحملات الانتخابية بملايين الدولارات. وباتت الأحياء الحضرية الفقيرة التي يسكنها السود تعاني مما تعانيه دون أن يكون لها صوت يجأر بأنينها. وفي هذا السياق تحديداً ظهرت ثقافة الهيب هوب، وموسيقى الراب في السبعينات. فهي ظهرت في أحياء السود الحضرية الفقيرة وعبرت عن معاناة شبابها.

بعبارة أخرى، فإن موسيقى الراب ذات طابع سياسي بامتياز، وهي تنطوي في كلماتها ومشاهدها ورقصاتها على دلالات رمزية لا تخطئها العين. فعلى سبيل المثال، جلست المغنية الجميلة بيونسيه في إحدى أغنياتها الشهيرة فوق سيارة غارقة في المياه، إشارة لمدينة نيو أورليانز، ذات الأغلبية السوداء، التي دمرها إعصار كاترينا. والأغنية حافلة بالمشاهد الدالة على عنف الشرطة ضد السود وإشارات لحركة «حياة السود مهمة». بل إن بيونسيه أثارت جدلاً صاخباً بسبب الدلالات الرمزية التي انطوت عليها أغنية أخرى ذات دلالات تشير مشاهد رقصاتها للزعيم الأسود مالكولم إكس وتستخدم شعار حركة «القوة السوداء» في الستينات.

والحقيقة أن الذين ينتقدون موسيقى الراب باعتبارها تمجد العنف يصدقون الأكذوبة التي تزعم أن السود مسؤولون عن العنف والجريمة بأمريكا، رغم أنهم أول ضحاياه. ولعل أغنية مطرب الراب، جامبينو، التي لاقت شعبية عالمية طاغية عندما ظهرت أول مرة عام 2018 تجسد ذلك المعنى. فالأغنية اسمها «هذه هي أمريكا» وكلماتها ومشاهدها تعكس معاناة السود. ففي أولى لقطاتها يرقص جامبينو بطريقة غريبة، تماماً كما كان البيض الذين يقلدون السود يسخرون منهم زمن الفصل العنصري.

ثم يرقص بعدها مع مجموعة من طلاب المدارس وعلامات السعادة بادية على وجوههم، بينما الخلفية حافلة بفوضى عارمة، وكأنه يقول إن العالم الذي يرقص سعيداً على أنغام الراب لا يدرك حجم المعاناة التي خرج الراب من رحمها. والعنف الموجود في المشاهد هو بالضبط ما يتعرض له السود. فالمشهد الذي يفتح فيه جامبينو نار سلاحه على فريق الإنشاد الديني بكنيسة، هو تماماً ما فعله الإرهابي الأبيض ديلان روف حين اقتحم كنيسة للسود بمدينة تشارلستون عام 2015 فقتل، بدم بارد، تسعة وجرح آخرين. ومشهد النهاية بالغ التأثير، ففيه يجري جامبينو وعلى وجهه ملامح الذعر والخوف، وكأنه يهرب من كل ذلك العنف.

Email