أثناء تحضيري لرسالة الدكتوراه في بريطانيا في التسعينات كنت دائم التردد على مكتبة الساقي بلندن للإطلاع على آخر الإصدارات العربية. كانت المكتبة آنذاك ملتقى الطلبة والسياح واللاجئين والمثقفين العرب، كما كان يتردد عليها ساسة ووزراء عرب سابقون وحاليون.
وفي إحدى المرات أسعدني الحظ بلقاء الدكتور فاضل عباس الجمالي، الذي زرعت الدعاية، في عقولنا أنه إنسان جاهل وهو ما اكتشفنا لاحقاً أنه هراء ومحض افتراء.
صافحت الجمالي وبدأت حديثي معه بالاعتذار عن رأينا فيه في سنوات شبابنا ومراهقتنا السياسية، فقابل الاعتذار بابتسامة وتعليق ظريف بلهجته العراقية الجميلة، ثم احتضنني ودعاني، بعد أن استفسر عن جنسيتي وأسباب تواجدي في بريطانيا، إلى فنجان قهوة في مقهى قريب، فكانت تلك فرصة ذهبية لاسترجاع ذكريات حقبة من تاريخ العرب المعاصر والاستماع إلى ما تختزنه ذاكرة شخصية عراقية نقية وسياسي قدير ورئيس حكومة سابق ووزير خارجية شهدت له محافل الأمم المتحدة بصدقه وشجاعته وبلاغته منذ إطلاق ميثاقها الذي كان مشاركاً في إعدادها باسم المملكة العراقية.
ولد الجمالي في الكاظمية ببغداد سنة 1903، ودرس في مدارس بغداد وتعلم الفرنسية بمدرسة خاصة ثم زاول مهنة التعليم قبل أن يسافر في عام 1922 إلى بيروت للالتحاق بجامعتها الأمريكية المرموقة التي نال منها ليسانس التربية سنة 1927.
عاد إلى العراق ليعمل فيه مدرساً بكلية المعلمين الابتدائية، ثم تم ابتعاثه إلى جامعة كولومبيا في نيويورك عام 1929 لإكمال دراسته العليا، فحصل على شهادتي دكتوراه في فنون التربية والفلسفة، فكان بذلك أول عراقي ينال الدكتوراه. منحته جامعة كولومبيا أيضاً الدكتوراه الفخرية في القانون سنة 1954، كما منحته جامعة بوسطن دكتوراه فخرية أخرى عام 1956.
تولى الجمالي مناصب عديدة، فمن مدير للمعارف ومدير عام لوزارة الخارجية إلى وزير للخارجية في سنة 1946 ثم في 1958 ورئيس للحكومة ما بين 1953 و1954، وعضو في مجلس النواب وعضو في مجلس الأعيان وعضو في مجلس الاتحاد العربي الهاشمي المكون من العراق والأردن. وفي عام 1958 اعتقل مع زملائه من وزراء النظام الملكي وحكم عليه بالإعدام، لكن تم العفو عنه بوساطة من العاهل المغربي الأسبق الملك محمد الخامس.
وبعد إطلاق سراحه عاش لاجئاً في لبنان ثم في سويسرا إلى أن استدعاه الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة إلى تونس ومنحه الجنسية التونسية تقديراً لدوره الدبلوماسي في استقلال تونس. وفي منفاه قام بالتدريس الجامعي وأصدر العديد من المؤلفات إلى أن توفي في تونس في 24 مارس 1997.
أثناء دراسته في الولايات المتحدة تعرف على زميلته «سارة باول»، المولودة في كندا لأبوين أمريكيين، فتزوجا عام 1932 وعاشت معه في بغداد، حيث أنجبت له ثلاثة من الأولاد (ليث وأسامة وعباس)، وحيث نشطت في افتتاح رياض الأطفال والمدارس ورعاية الفقراء والعناية بأطفالهم، بل افتتحت أيضاً أول مدرسة للمعاقين ذهنياً في العراق بعد أن ولد ابنها الأكبر ليث معاقاً. وقد رافقت زوجها في منافيه وأسلمت على يده وعاشت معه في تونس إلى أن فارقت الحياة سنة 2000.
وسنتحدث في هذه المادة على الابن الأوسط أسامة فاضل الجمالي، كونه الأبرز من بين أشقائه تحصيلاً ومؤهلات وشغلاً للمناصب.
ولد أسامة في مصيف برمانا اللبناني في 23 سبتمبر 1936 أثناء قضاء والدته إجازتها هناك (لذا حمل جنسية والده العراقية وجنسية أمه الأمريكية وجنسية مكان الميلاد اللبنانية) ثم انتقل طفلاً إلى بغداد، حيث نشأ وترعرع في منزل والده المستأجر بشارع أبي نواس في منطقة تسمى «بستان كبة».
تلقى تعليمه النظامي من الروضة والتمهيدي إلى الابتدائي والإعدادي في «مدرسة السعدون النموذجية» و«مدرسة مدام عادل» الخصوصية الصارمة في تقاليدها ومقرراتها. أما المرحلة الثانوية فقد درسها في مدرسة خاصة حديثة بشمال بغداد كانت قد تأسست سنة 1933 من قبل الرهبان الكاثوليك، ولم يكن فيها سوى القسم العلمي دون الأدبي، ما أجبره على الالتحاق بهذا القسم كونه الخيار الوحيد.
في حديثه عن سنوات دراسته الثانوية أخبرنا الجمالي الابن أنه كان يعبر جسر الأئمة الحديدي للوصول إلى مدرسته مستخدماً في الذهاب والإياب دراجة اشتراها بأربعة عشر ديناراً من توفير مصروفه الشخصي. وفي هذه المدرسة تعرف على العديد من أبناء العراق من مختلف المناطق والطبقات لأن مدرسته كانت تضم أجنحة سكنية داخلية للطلبة القادمين من خارج بغداد، في دليل على ما كانت حكومة العراق الملكية توليه من اهتمام بالتعليم منذ عام 1921م.
يخبرنا أسامة في حوار له مع الكاتب والباحث الكويتي منصور الهاجري في صحيفة «الأنباء» الكويتية (16/5/2015) أنه رغب في دراسة الهندسة في الخارج بعد أن تخرج من مدرسته الثانوية، خصوصاً وأنه كان يتحدث الانجليزية بطلاقة، لكن والدته شجعته على الالتحاق بالأعمال البنكية قائلة: «أخوالك الأمريكان كلهم يعملون في المصارف، وثلثين الولد على خواله».
وهكذا انخرط الرجل، بعد الثانوية في سوق العمل من خلال وظيفة ببنك الرافدين في بغداد، ثم ما لبث أن تم نقله إلى فرع البنك في بيروت. ولأن العمل في البنك شتاء كان قليلاً، فقد تقدم بطلب إلى مديره «محمد علي شلبي» لمنحه إجازة دراسية من دون راتب من أجل إكمال تعليمه الجامعي عبر الالتحاق بالجامعة الأمريكية ببيروت التي تخرج منها والده.
درس أسامة في جامعة بيروت الأمريكية الاقتصاد والعلوم السياسية والفلسفة، وتخرج منها بعد أن أعاد سنته الرابعة والأخيرة بسبب ضعفه في مقررات اللغة العربية.
وعلى إثر ذلك عاد إلى عمله ببنك الرافدين في بيروت مسلحاً بدرجته الجامعية، فعمل لفترة جديدة تخللها زواجه (تزوج في الكويت من العراقية ميسون صبيح الوهبي ابنة د. صبيح حسن الوهبي أول جراح عراقي وأحد وزراء الصحة في العراق الملكي، والسيدة فاطمة العسكري ابنة الجنرال جعفر العسكري مؤسس الجيش العراقي، فأنجبت له ميسون مهندسة النفط سيرين أسامة الجمالي، وسما أسامة الجمالي المتخصصة في الفيزياء وعلوم الأغذية).
وبانقضاء تلك الفترة عاد إلى بغداد فتم تعيينه موظفاً بفرع البنك في لندن بديلاً لموظف عراقي، حيث أمضى هناك نحو عشرة أشهر وقع خلالها انقلاب 14 تموز 1958 الذي أطاح بالنظام الملكي مع اعتقال كافة رموزه ومن بينهم والده.
شكلت تلك الواقعة صدمة قاسية له، خصوصاً بعد أن وردت برقية إلى البنك بضرورة إنهاء خدماته وفصله، لا لذنب أو تقصير في عمله وإنما فقط لأنه ابن رئيس الوزراء ووزير الخارجية الأسبق فاضل عباس الجمالي.
يقول الجمالي إنه حاول مع مديره أن يبقيه في وظيفته أو يعيده لوظيفة مشابهة في بغداد، لكن محاولاته فشلت، فما كان منه إلا الخروج للبحث عن عمل جديد في بريطانيا إلى أن وجد عملاً كمحلل اقتصادي بهيئة الإذاعة البريطانية، لكنه اختار ألا يلتحق بالوظيفة مفضلاً عليها السفر إلى سويسرا للعمل مع مجموعة سبق أن تعرف عليها في مقرهم الدولي هناك. وأثناء عمله في سويسرا تلقى مكالمة من مصرف استثماري خاص في نيويورك كان رئيسه على علاقة قديمة بوالده.
وهكذا بدأت رحلة أسامة الجمالي الأمريكية، حيث سافر من سويسرا إلى نيويورك لاستلام عمله المصرفي الجديد.
وهناك رتبت له الأقدار لقاء مع رئيس جامعة كولومبيا التي نال منها والده درجة الدكتوراه، فعرض عليه أن يقوم بالتدريس في الجامعة، خصوصاً وأنه يحمل الجنسية الأمريكية، وأن يقوم في الوقت نفسه بالدراسة للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه. فعمل في التدريس الجامعي لمدة عشر سنوات.
استطاع الرجل بجهده وتنظيم وقته أن يوفق ما بين التدريس والدراسة بجامعة كولومبيا، وأن ينال درجة الماجستير في الاقتصاد وإدارة الأعمال من كلية التجارة التابعة لجامعته النيويوركية الراقية. ومرة أخرى يبتسم له الحظ بسبب علاقات والده القديمة المتشعبة.
ففي أحد الأيام دخل عليه في مكتبه نائب مدير المصرف الأمريكي ودعاه إلى العشاء في شقته لمقابلة شخصية عربية كان قد تعرف عليها من خلال اجتماعات صندوق النقد الدولي. وكانت الشخصية «علي نور العنزي» محافظ بنك ليبيا المركزي وأول وزير للمالية في حكومة المملكة الليبية المتحدة، وأحد معارف والده فاضل الجمالي.
اقترح المسؤول الليبي على صاحبنا أن يواصل دراسته ويحصل على الدكتوراه ثم يحضر إلى ليبيا لشغل منصب رفيع في بنكها المركزي الذي كان يشرف على جميع بنوك البلاد، وكانت كلها أجنبية آنذاك، ولديه أقسام للبحوث وفروع تجارية.
هذا العرض جعل أسامة الجمالي يعود إلى مقاعد الدراسة في مدينة بوسطن لمدة أربع سنوات أخرى تكللت بحصوله على الدكتوراه عن أطروحة حول البنوك المركزية في الدول النامية تحت إشراف البروفسور «دون همفري» الذي شجعه كثيراً وحثه على أن يعد دراسات جانبية يجيب فيها عن سؤال «لماذا أسعار الفائدة عالية في بلد به رأسمال؟». وتخللت تلك السنوات العشر فترات تدريب مكثفة على مدى ستة أشهر لدى البنك الفيدرالي الأمريكي، وفترات تولى فيها التدريس بمدرسة فلاشر للقانون والدبلوماسية (أول مدرسة للعلاقات الدولية، وكانت تضم 70 طالباً مع منع زيادة العدد).
ذهب الجمالي، بعد نيله الدكتوراه وحصوله على التدريبات العملية، إلى ليبيا، حيث عمل لأربع سنوات في مصرفها المركزي، توثقت خلالها علاقته مع الشخصية الليبية المعروفة الدكتور «علي أحمد عتيقة» الذي سبق وأن تعرف عليه في نيويورك، والذي شغل منصب وزير التنمية والتخطيط ثم منصب وزير الاقتصاد الوطني وعضو مجلس البترول في ليبيا الملكية.
في عام 1974، وكان عتيقة قد ترك بلاده بعد الإطاحة بالملكية، ثم انتقل إلى الكويت، حيث تولى منصب الأمين العام لمنظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول (أوابك) التي تأسست سنة 1968 من السعودية والكويت وليبيا قبل أن تنضم إليها بقية الدول العربية المصدرة للنفط، تلقى الجمالي دعوة من صديقه عتيقة للقدوم من الولايات المتحدة إلى الكويت لإلقاء محاضرة عن «دور منظمة الفحم والصلب في تأسيس السوق الأوروبية المشتركة»، علماً بأن منظمة الفحم والصلب تأسست سنة 1953 ولعبت كلبنة أولى نحو إطلاق السوق الأوروبية المشتركة التي تحولت اليوم إلى «الاتحاد الأوروبي».
وبالفعل حضر الجمالي إلى الكويت في فبراير 1974 لإلقاء محاضرته، حيث تعرف على عمل منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول ومشاريعها وعلاقاتها مع السوق الأوروبية المشتركة، وحيث قابل مجموعة من الأكاديميين الكويتيين ممن سبق أن تعرف عليهم في الولايات المتحدة مطلع السبعينات من أمثال د. حسن الإبراهيم (وزير التربية الأسبق) ود. أنور النوري (وزير التربية والتعليم العالي ووزير الصحة الأسبق) ود. سيف عباس دهراب (أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت).
عاد الجمالي إلى الولايات المتحدة بعد رحلته الكويتية، لكنه عاد إلى الكويت مرة أخرى للعمل لدى منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول محللاً للطاقة في إدارتها الاقتصادية.
ومن المنظمة شق طريقه إلى العمل الأكاديمي في الكويت، حيث تولى بطلب من صديقه الدكتور عبدالله عبدالمحسن الشرهان مؤسس الكلية الأسترالية في الكويت منصب مستشار ورئيس مجلس أمناء هذه الكلية التي تأسست عام 2004 كواحدة من أوائل الجامعات الخاصة بدولة الكويت. وفي الكويت التي ما زال مقيماً بها، نشط في إلقاء المحاضرات والمشاركة في الندوات العلمية والأدبية وإصدار المؤلفات الرصينة في مجال تخصصه الاقتصادي والمالي.