تحطم المسبار الروسي.. ونبرة التشفي المحزنة

ت + ت - الحجم الطبيعي

احتلّت حادثة تحطّم المسبار الروسي «لونا- 25» النشرات والمواقع الإخبارية ومثّلت مادّة دسمة للكثير من البلاتوهات التلفزية في عدد من الدول الغربية، وكان القاسم المشترك بين كلّ هذه المواقع هو نبرة التشفّي، وتقديم الحادث على أنّه نكسة سياسية للاتحاد الروسي ولرئيسه فلاديمير بوتين.

وكانت وكالة الفضاء الاتحادية الروسية «روسكوسموس»، ذكرت الأحد الماضي، إنّ المسبار «لونا-25» تحطّم على سطح القمر بعد دخوله مداراً غير خاضع للسيطرة.

وأعلنت الوكالة في بيانها «أنّ المركبة تحرّكت إلى مدار لا يمكن التنبؤ به، وانقطع وجودها نتيجة اصطدامها بسطح القمر».

وذكرت وكالة الفضاء الروسية أنّ «وضعاً غير طبيعي» حدث عندما حاولت أجهزة التحكّم نقل المركبة إلى مدار ما السبت قبل الهبوط المقرر يوم الاثنين الماضي.

وبقطع النظر عن الأسباب التي أدّت إلى تحطّم المسبار، فإنّ الحادثة وقع تقديمها كفشل ذريع لروسيا، وكانت مناسبة لمزيد تسليط الضوء على الضغط الذي يعانيه الاقتصاد الروسي، وبخاصة قطاعات التكنولوجيا المتقدمة، في وقت تواجه فيه العقوبات الغربية المفروضة عليها بعد حربها على أوكرانيا.

الحادثة كانت فرصة مواتية لضرب الفخر الروسي بقطاع هو فيه رائد وسبّاق، وخصّصت المواقع الإخبارية مساحات كبيرة لإبراز ما أسمته بـ «تراجع القدرات الفضائية لروسيا منذ أيام مجدها خلال المنافسة وقت الحرب الباردة عندما كانت موسكو أول من أطلق قمراً صناعياً يدور حول الأرض، وهو «سبوتنيك1»، في عام 1957. كما أصبح رائد الفضاء السوفييتي يوري غاغارين أول رجل يسافر إلى الفضاء عام 1961»، وحتّى إطلاق «لونا-24» في عام 1976 برحلة إلى القمر كانت آخر الرحلات حتى تجديد العهد الأسبوع الماضي.

وفي غمرة سيل التعليقات السلبية الجارف نسي الجميع في هذه الدول أنّ الكوارث في مجال البحوث الفضائية ليست شأناً روسياً بحتاً، وأنّ البشرية كانت على موعد خلال القرن الماضي مع العديد من الحوادث المميتة أثناء رحلاتها الاستكشافية والعلمية نحو الفضاء.

فمنذ فترة تجربة أولى الصواريخ الباليستية، التي فتحت الطريق لبلوغ الفضاء على يد العلماء الألمان أثناء الحرب الكونية الثانية مروراً بحوادث صواريخ سويوز 1 وسويوز 11 السوفييتية وأبولو الأمريكية، فقد العديد من رواد الفضاء أرواحهم أثناء مغامرات لبلوغ الفضاء وكانت دوماً محفوفة بالمخاطر والصعوبات، وكلّنا يتذكّر حادثة انفجار المكوك الفضائي الأمريكي «تشالنجر» سنة 1986، بعد 73 ثانية من انطلاقه، ووفاة كلّ أفراد طاقمه.

إنّ هذه الحوادث الأليمة، ورغم وجود تنافس قويّ في مجال البحوث الفضائية ورغم تضارب المصالح السياسية وغيرها، كانت مناسبة تضامن بين كلّ الدول والمجتمعات على خلفية أنّ الأبحاث في مجال الفضاء هي ملكية مشتركة للإنسانية؛ لكون نتائج هذه الأبحاث لها تداعيات مباشرة على مختلف جوانب الحياة البشرية، وهذا الإحساس بأنّ مجال الأبحاث الفضائية هو ملكية مشتركة بين الإنسانية فتح الباب مشرعاً أمام التعاون الدولي والمهمّات المشتركة والتي بدأت منذ 1963 بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية ويمثّل إنجاز المركبة الفضائية الدولية سنة 2010 والذي يتواصل إلى حدود 2030، أحد آخر أهمّ تجلّيات هذا التعاون في مجال الأبحاث الفضائية.

ولم تمنع مختلف الحروب وحتى الحرب الباردة بين دول المنظومة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق ودول المنظومة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من استمرار وتدعيم هذا التعاون، وكان منسوب التسامح يرجّح دوماً الكفّة لمّا يتعلّق الأمر بالمشترك الإنساني.

إذاً من المعيب قبول واستيعاب نبرة التشفّي الاحتفالية عند بعضهم بمناسبة فشل مهمّة كلّ الأطراف هي عرضة له، وهو سلوك من شأنه أن يقوّي خطاب الحقد والضغينة والتطرّف القومي، ويفتح الأبواب أمام تسليح الفضاء وعودة سباق التسلّح عموماً التي خالت البشرية أنّه أصبح من الماضي بعد التعطيل الإرادي لبرنامج الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان «حرب النجوم» أواسط ثمانينات القرن الماضي، واستمرار توقيع اتفاقيات الحدّ من التسلّح وانتشار الأسلحة النووية.

إنّ «العقل الغربي» مدفوعاً بنزعة الهيمنة التي يتضمنها الفكر الذي يحرّكه وخطابه وسلوكه السائد «مع الأسف» لا يساعد على وضع أسس دائمة وسليمة لتعاون دولي مثمر تستفيد منه البشرية جمعاء، وإنّ الإصرار على تغذية السلوكيات الضدّية ينزع عن الخلافات والاختلافات متعة التنوّع ويدخل بالإنسانية نفقاً مظلماً سيفتح بالضرورة على نزاعات وحروب مدمّرة للجميع، وإنّه ما من طريق سالك لديمومة الإنسانية دون تنمية المشترك العلمي والاقتصادي والقيمي بين البشر واحترام القواعد المشتركة التي تعبّر عن الجميع، وتقطع مع الهيمنة والظلم، وما عدا ذلك فالدمار قادم والخراب مضمون.

 

Email