كلما قرأت عن احتفال الهند بذكرى الاستقلال كل سنة، تذكرت المهاتما غاندي، الذي كان بطلاً للاستقلال بغير منافس.

وكلما تذكرت غاندي، تذكرت فيلسوف اليونان سقراط، ومعه أديب الروس تولستوي، فلقد كان في بطل استقلال الهند شيء من الفيلسوف والأديب معاً.

كان سقراط كما نعرف قد أحيل إلى المحاكمة، وكانت التهمة الموجهة إليه أنه قد أفسد عقول الشباب، لأنه كان يدعوهم إلى النقاش والحوار. وفي محاكمته لم ينكر التهمة لأنه كان يعتقد أن عليه أن يعلم الشباب التفكير، وكانت نتيجة عدم إنكاره التهمة أن حكماً صدر عليه بالموت، أو بالإعدام بلغة هذه الأيام، وكان عليه أن يختار الطريقة التي يموت بها، فاختار السم يتجرعه حتى تفيض روحه إلى خالقها.

شيء من هذا تجده في حياة غاندي، الذي لما قبض عليه المحتل الإنجليزي لأن منشوراته قد أثارت الشباب، لم ينكر التهمة ولم يشأ أن يدافع عن نفسه بأنه آخر إنسان يدعو إلى العنف، وكانت النتيجة معه كما كانت مع سقراط، لولا أن الحكم عليه كان بالسجن ست سنوات، ولم يكن في العقوبة اختيار كما كان الحال مع فيلسوف اليونان.

وهكذا ترى خيطاً رفيعاً يمتد ليربط بين الرجلين اللذين لم يلتقيا.. وكيف يلتقيان إذا كان غاندي قد عاش في القرن العشرين، بينما عاش الآخر قبل ميلاد المسيح عليه السلام؟ كان لدى كل واحد منهما من الشجاعة ما يكفي لأن يقف كلاهما أمام القاضي فلا يهرب ولا يتهرب.

أما تولستوي الذي غادر الدنيا في بدايات القرن العشرين، فكانت بينه وبين بطل استقلال الهند ما يجعلهما على موجة واحدة من حيث إرسال الأفكار واستقبالها.

فليس سراً أن تولستوي كان صاحب ثروة وأطيان، وأنه قد جاء عليه وقت فكر في ثروته وأطيانه، وانتهى به تفكيره إلى الاعتقاد بأن الثروة والأطيان من حق الفقراء الروس، فأخذها وراح يوزعها عليهم، وكان هذا ما أثار عليه زوجته وأسخطها، ويبدو أنه لم يستطع بعد ذلك العيش معها، فقضى أيامه الأخيرة في محطة قطار إلى أن مات.

هذا ما تجده في حياة غاندي الذي كان غنياً في بدايات حياته، فنقل ثروته إلى فقراء الهند، وعاش على الكفاف لا يزيد، وقيل عنه أنه لم يكن يملك غير ثلاثة أثواب، وأنه كان يرتدي واحداً ويغسل الثاني، أما الثالث فكان يفرشه لينام عليه.

ولا فرق بينه وبين تولستوي، إلا أنه وزع ثروته على فقراء بلاده في بدايات حياته، أما أديب الروس فقد فعلها في النهايات، ولكن جمع بينهما أن طبع الزوجة المزعج كان واحداً ومشتركاً، وأن ما كانت زوجة سقراط تفعله معه أمام تلاميذه وتعكر عليه صفو حياته، قد فعلته زوجة تولستوي ولكن بطريقة أخرى مختلفة.

ما أعظم الثلاثة في الحقيقة، لأنهم عاشوا في أزمان بعيدة عن بعضها البعض، ولم يحدث أن التقوا ذات مرة، ومع ذلك كانوا وكأنهم على موعد، وكانت المبادئ التي يجب أن تسود في حياة الإنسان هي دستورهم غير المكتوب، وكانوا لا يتعاطفون مع الإنسان إلا من حيث هو إنسان، لأن ما عدا ذلك كان في نظرهم من قبيل التفاصيل.