القرآن الكريم كتاب الله الخالد، الذي تضمن أبهى المبادئ والتصورات والقيم، وأرقى الفضائل والأخلاق والشيم، أنزله الله تعالى لإسعاد البشرية، وإرشادهم إلى طرق الخير والبر، فتكون علاقتهم بخالقهم الذي أوجدهم وأنعم عليهم علاقة إيمان وشكر وتعظيم، وعلاقة تنوير وتحرير للعقول من الأوهام والخرافات، وتنقية للنفوس من الأنانية والأحقاد وحب الإثم والعدوان، وتخليص للروح من الهموم والغموم والقلق والأحزان، وتكون علاقتهم ببعضهم البعض على اختلاف أعراقهم وأجناسهم وأديانهم علاقة بر وأخلاق وإحسان.
لقد أرسى القرآن الكريم دعائم القيم الحضارية التي ترتقي بالفرد خصوصاً وبالمجتمع الإنساني عموماً، فدعا إلى الإيمان بالله تعالى، رباً خالقاً متصفاً بأكمل الصفات مستحقاً للعبادة والثناء، مبدعاً مدبراً لهذا الكون، بنظامه المتسق، وما فيه من عجائب الأجرام والمجرات، إيماناً لا يحول دون التفكر في بديع صنع الله، واكتشاف ما أودعه فيه من القوانين والنظام، بل إن ذلك من صميم ما دعا إليه الإيمان، قال عز وجل: {قُلِ انظروا ماذا في السماوات والأرض}، وقال: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض}، وقال: {أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض}، ولا يقوم نظام العلوم قديماً وحديثاً إلا بالاعتراف بعالمية القوانين وأطرادها واتساقها، ومن دون الإيمان بذلك تنهار العلوم ولا تقوم لها قائمة، سواء أكان المؤمنون بذلك مؤمنين بالله أم منكرين، ماديين أم مثاليين، إلا أن المؤمن بالله تعالى متسق مع نفسه وفكره دون تناقض واضطراب.
وفي ضوء ذلك دعا القرآن الكريم إلى العلم والمعرفة والتفكر والاكتشاف، والبحث عن الحقيقة بتجرد وإنصاف، ونبذ التحيز والتعصب والتقليد الأعمى، كما حث على العمل والتعاون وتسخير النعم على الوجه الأمثل، بما يحقق للإنسان الحياة الكريمة، ويمكنه من امتلاك القوى المعرفية والمهارية لعمارة الأرض ونفع البشرية، قال تعالى: {وقل ربِّ زدني علماً}، وقال سبحانه عن نوح عليه السلام: {فأوحينا إليه أن اصنع الفلك}، وقال عن داود عليه السلام: {والنَّا له الحديد. أنِ اعمل سابغات وقدر في السرد} أي اصنع الدروع، واستعمل المسامير فيها بعناية، فلا تجعلها دقيقة فتفلت، ولا غليظة فتكسر، وقال عن ذي القرنين وإتقانه بناء السد لحماية الناس: {آتوني زُبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال آتوني أفرغ عليه قطراً. فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً}، فبنى السد بناءً محكماً باستخدام الحديد والنحاس المذاب، فما استطاع المعتدون أن يعلو عليه بسلالم ولا غيرها ولا أن يخترقوه بمعاول أو فؤوس.
ومن القيم الحضارية التي دعا إليها القرآن الكريم بناء العلاقات الإنسانية على أساس من التعارف والتعاون والمعاملة بالحسنى، وصيانة الكرامة الإنسانية، ونبذ الإيذاء والعدوان وانتهاك الحقوق، قال تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}، فذكر الله تعالى البشر بأصلهم الواحد، وأنهم متساوون بينهم في ذلك، فلا فرق بين عربي وعجمي ولا بين أبيض وأسود ولا بين ذكر وأنثى ولا بين جنس وآخر إلا بالتقوى، وأمر بالصدق في كل حال، وبالعدل مع كل أحد، وبرد الأمانة في كل الظروف، كما حث على السلام والأمان والاستقرار، ليأمن البشر على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، فلا يعتدي أحد على أحد، قال تعالى: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}.
ومن القيم الحضارية القرآنية عدم الإكراه في الدين، وعدم النقد الجارح المستفز القائم على السب والشتم وإثارة حمية الآخر وتنفيره، قال تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عَدواً بغير علم}، فالنصيحة بالحسنى، والنقد بالعلم والحكمة، قال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}، هذا أدب القرآن الكريم، فأين أولئك المتبجحون بالحريات والحقوق من هذه الآداب؟!
إن القيم الحضارية القرآنية بحر زاخر لا ساحل له، ونور ساطع متلألئ، لا يتحمله من أغشى الظلام أبصارهم، وانحرفوا عن القيم الحقيقية لحرية الفكر والتعبير، فاندفعوا ليطفئوا نوره بالإهانة والاستفزاز، فلا احترموا لغيرهم حريات، ولا حفظوا لهم حقوقاً، ولا راعوا لهم مشاعر، فهم معاول لهدم السلام والاستقرار، ونشر التطرف والإرهاب.