شخصيات تحت المجهر

بيتر هيلير.. 50 عاماً في حب الإمارات وتوثيق تاريخها

ت + ت - الحجم الطبيعي

الباحثون والمنقبون الغربيون، الذين جذبتهم الصحارى العربية بأسرارها وكنوزها، ومجاهلها كثر، ولئن استضافت البلاد العربية، منذ القرنين الخامس والسادس الميلاديين العديد منهم، وأفسحت لهم مجال البحث والتنقيب والتوثيق، فقدموا خدمة لا تقدر بثمن للباحثين والدارسين والمؤرخين العرب، فإن العملية ذاتها لم تتوقف في العصر الحديث، وإن رافقتها متغيرات كثيرة، بفعل التقدم العلمي في وسائل الاتصال والتنقل والاكتشاف والبحث والتحليل والتصوير، ولعل قصة الباحث والمؤرخ والكاتب الإماراتي من أصل بريطاني بيتر هيلير، تؤكد عدم انقطاع الغربيين، والأجانب عن الاهتمام بتاريخ منطقتنا وشغفهم ببيئتها وحياتها الفطرية.

وبيتر هيلير، الذي توفي في الثاني من يوليو الجاري بأبوظبي بعد صراع مع المرض، ترك إرثاً قيماً في مجال التنقيب عن الآثار واكتشاف المواقع التاريخية في الإمارات، إلى جانب مجموعة كبيرة من المؤلفات في موضوعات متعددة.

فهذا البريطاني المولود في إنجلترا حل في أبوظبي في عام 1975، من أجل أن يعد فيلماً وثائقياً عن مؤسس الدولة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، لكن شغفه واهتمامه بالتاريخ والآثار والبيئة والحياة الفطرية دفعه إلى البقاء، وهكذا ظل مقيماً في الإمارات بين أهلها، مقدماً لها عصارة فكره وجهده، ومنشغلاً لأجلها على أكثر من صعيد بحثي وإعلامي واستكشافي وتوثيقي، إلى أن اكتسب جنسيتها، وأصبح واحداً من حملة هويتها، وتوفي على أرضها، التي أحبها، ودفن في مقابرها (مقبرة بني ياس في أبوظبي).

ونعى صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، المؤرخ والكاتب بيتر هيليير حيث قال سموه في تدوينة، عبر حسابه الرسمي في «تويتر»: «خالص التعازي والمواساة إلى عائلة المؤرخ والباحث بيتر هيلير.. خدم الإمارات بتفانٍ وإخلاص على مدى عقود، وترك بصمات بارزة في مجالات الآثار والبيئة والإعلام.. فقدنا برحيله نموذجاً للالتزام والعطاء.. سنظل نتذكره، وسيبقى ما قدمه إلى الإمارات حاضراً في ذاكرتها على الدوام».

كما نعاه سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية قائلاً: «الإنجليزي الذي أحب الإمارات حتى أصبح أحد أبنائها.. ‏الله يرحمه».

أما زميلة الراحل بيتر هيلير الكاتبة وعالمة الآثار المقيمة في الفجيرة الدكتورة ميشيل زيولكوفسكي، مؤلفة كتاب «الفتى الذي يعرف الجبال»، وهو كتاب حصل على جائزة من الإمارات كونه أفضل كتاب للأطفال، فقالت: «قابلت بيتر هيلير لأول مرة في عام 1993 عندما كنت طالبة جامعية أعمل في التنقيب بالشارقة. كان لديه اهتمام عميق بتاريخ الإمارات وآثارها وثقافتها. في كل موسم ميداني شتوي كان يزور الفرق الأثرية العاملة في جميع أنحاء الإمارات، وكان حريصاً على التعرف إلى الاكتشافات، التي توصلنا إليها ونظرياتنا، بل كان دائماً موجوداً لدعم علماء الآثار والترويج للاكتشافات الأثرية في الإمارات.

لقد كنت محظوظة بما يكفي للعمل معه في مناسبات عدة على مر السنين، حيث كان زميلاً ومعلماً وصديقاً وداعماً للكل. أكثر الذكريات، التي أعتز بها هي الأوقات التي تحدثنا فيها عن طفولته وتربيته وعن منزله في جيرسي».

ولد هيلير بإنجلترا في حدود عام 1948، وأمضى سنوات نشأته وترعرعه ودراسته الأولى في جزيرة جيرسي، إحدى جزر القنال الإنجليزية، التي خدم حكومتها كثيراً فيما بعد لجهة توثيق علاقاتها التجارية والاستثمارية مع الإمارات ودول الخليج العربي، أما دراسته الجامعية فقد كانت في ساسكس في عقد الستينيات، وهي المرحلة، التي بدأت فيها اهتماماته بمنطقة الشرق الأوسط وقضاياها السياسية ولا سيما القضية الفلسطينية، التي كان متعاطفاً معها وداعماً قوياً لها، وفي هذه الفترة من حياته كان أيضاً من الناشطين البارزين في صفوف شباب «الحزب الليبرالي» البريطاني، بدليل أنه انتخب نائباً دولياً لرئيس الرابطة الوطنية لشباب الحزب.

وبصفته تلك تمكن من نقل قضية فلسطين إلى داخل أروقة حزبه، ولم يمض وقت طويل حتى أصبح الرجل مساعداً للسياسي البريطاني ديفيد ستيل، الذي صار لاحقاً زعيماً للحزب، ومن اهتماماته السياسية الأخرى آنذاك تأييده القوي للحركة المناهضة للفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وهو ما جعله ذات مرة في عام 1969 يقتحم الملعب أثناء مباراة في كرة الرغبي بين منتخبي إنجلترا وجنوب أفريقيا كونه نوعاً من الاحتجاج، فكان أن اصطدم بأحد اللاعبين، وسقط على العشب الموحل قبل أن تقتاده الشرطة إلى الخارج، وتقول له إن وقوعه في الوحل، وتلوث ملابسه والكدمات، التي أصيب بها عقوبة كافية.

اشتغل هيلير بالكتابة الصحفية، مقتدياً بوالده آرثر هيلير، الذي واظب على الكتابة أسبوعياً في جريدة الفايننشال تايمز على مدى ثلاثين عاماً، متناولاً في أعمدته قضايا الطبيعة والبستنة.

وقاد اشتغال هيلير بالصحافة إلى الشغف بالتصوير والأفلام الوثائقية، ومن خلالهما برزت اهتماماته بالتاريخ والبحث، وهكذا توسعت دائرة شغفه حتى شملت الاستكشافات الأثرية والحياة الفطرية وحمايتها، ولا سيما الشق المتعلق بالطيور والصقور، وفي عام 1975 قدم إلى دولة الإمارات لإعداد فيلم وثائقي تسجيلي عن الزيارات الخارجية للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وذلك بترتيب من المرحوم الأستاذ إبراهيم العابد، الذي كان تعين في السنة ذاتها في وزارة الإعلام والثقافة الإماراتية مسؤولاً عن الإعلام الخارجي.

ويعتقد أن العابد وهيلير، اللذين تزاملا لاحقاً ولسنوات طويلة، وعملا معاً في تأسيس وإدارة وكالة أنباء الإمارات وإنشاء خدمة اللغة الإنجليزية بها، انجذب كل منهما إلى الآخر، بسبب مواقفهما السياسية المتطابقة.

في الإمارات تعرف هيلير على المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، لأول مرة أثناء جولة في أحد الأسواق، فانبهر الرجل بشخصية القائد المؤسس، ثم توثقت علاقتهما لاحقاً، وزادت معرفة كل منهما بالآخر، خصوصاً بعد مرافقة هيلير للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، في زياراته الرسمية إلى اليمن ومصر وفرنسا واليابان وإندونيسيا، لتصوير وإعداد أفلام وثائقية عن تلك الزيارات.

وجملة القول: إن ملازمة هيلير للشيخ زايد، وتعرفه على اهتمامات مؤسس الدولة جعله يقرر البقاء في الإمارات وصرف النظر عن العودة إلى بريطانيا كما كان مقرراً، والعمل بدلاً من ذلك على تطوير جهاز الإعلام، وتقديم خدمات استشارية مع ممارسة شغفه في البحث والتنقيب عن الآثار.

وهكذا، نجده يساعد عام 1977 في إنشاء وكالة الأنباء الرسمية (وام) باللغة الانجليزية، ويترأس البث التلفزيوني والإذاعي باللغات الأجنبية في أبوظبي، ويشغل من عام 1985 وحتى عام 1999 منصب مدير تحرير صحيفة «أخبار الإمارات»، وبعد اغلاق الصحيفة واصل عمله في مجال الأخبار والاتصالات وصار مستشاراً إعلامياً للمجلس الوطني للإعلام، حيث كان له بالمجلس مكتب خاص مزدحم على الدوام بأكوام من الصحف الأجنبية وبالصحفيين والمراسلين الأجانب من مختلف أنحاء العالم، كما تمت الاستعانة به مستشاراً في مجال النفط.

وما بين هذه المسؤولية وتلك كان هيلير يقتنص بعض الوقت، لتأليف وتحرير الكتب والمؤلفات المتعلقة بشؤون الإمارات التراثية والبيئية والفطرية والسياحية، ساكباً فيه معارفه الغزيرة وشغفه اللامحدود بهذه المجالات، وسارداً مشاهداته وملاحظاته واكتشافاته الميدانية، فعلى سبيل المثال تمكن الرجل خلال فترة وجوده على أرض الإمارات من إثراء المكتبة الإماراتية والعربية بنحو عشرين مؤلفاً، تراوحت مواضيعها ما بين تاريخ الاكتشافات النفطية في أبوظبي، وتاريخ مدينة العين، وتراث الإمارات، وشخصية الشيخ زايد ومسيرته، ومظاهر الطبيعة والحياة الفطرية في الإمارات، والحقيقة أن مؤلفاته المكتنزة بالمعلومات الدقيقة كانت ثمرة من ثمار ترأسه لسنوات عديدة «مجموعة الإمارات للتاريخ الطبيعي»، وتوليه لعقود عدة مسؤوليات تحريره مجلة المجموعة تحت اسم «تريبولوس»، ناهيك عن مشاركته في عام 1992 في تأسيس وقيادة هيئة المسح الأثري لجزر أبوظبي، والتي أسفرت عن اكتشاف قرى تعود إلى العصر الحجري في جزيرتي دلما ومروة، وغيرها من الاكتشافات، التي أكدت التاريخ الأثري الغني للإمارات.

إلى ذلك دعم وأسهم في الأعمال الاستكشافية للآثار في أم القيوين، فكان وراء المزيد من الاكتشافات المذهلة هناك مثل اكتشاف دير قديم العام الماضي، واكتشاف أقدم قرية لصيادي اللؤلؤ في الخليج العربي قبل وفاته بأشهر، وأسس «مجلس سجل الطيور» في الإمارات، الذي صدر عنه كتابا «طيور الشرق الأوسط» و«طيور الإمارات العربية المتحدة» من تأليف هيلير نفسه بالاشتراك مع زميله رتشارد بورتير.

وتقديراً لمجمل جهوده وإنجازاته في خدمة الإمارات تمّ منحه الجنسية الإماراتية في عام 2010، وفي العام 2013 حصل على جائزة أبوظبي مع وسامها، وتعد هذه الجائزة أعلى تكريم مدني في إمارة أبوظبي، وقد صدر مرسوم أميري بإنشائها في عام 2005، وتمنح للأفراد، الذين أسهموا بتفانيهم والتزامهم في خدمة مجتمع دولة الإمارات، وكان هيلير قد حصل في عام 2005 على جائزة الشيخ مبارك بن محمد لتاريخ الطبيعة.

لم يكتف الفقيد بما سبق، وإنما قام أيضاً بإيصال معلوماته ومعارفه التاريخية والثقافية إلى الجمهور العريض، من خلال محاضرات وعروض في المدارس والجامعات والمنتديات العامة، رغبة منه في توعية المجتمع والشباب بتراث الإمارات وتاريخها القديم والحديث، ومنها محاضرة قيمة، ألقاها سنة 2008 في جامعة نيويورك بأبوظبي تحت عنوان «زايد والتراث البيئي والثقافي لدولة الإمارات»، تحدث فيها عن مدى شغف الشيخ زايد وحبه لمعرفة كل ماهو موجود في وطنه من حجر وطير وبشر وأثر، ومدى إسهامات مؤسس الدولة في إطلاق وتشجيع ومتابعة مشروعات الحفاظ على المحميات الطبيعية في أبوظبي، وعمليات الحفاظ على البيئة الزراعية.

أما مساهمات هيلير في الكتابة الصحفية المنتظمة في صحف الإمارات فقد بدأت في عام 2008، من خلال عمود نصف شهري بجريدة The National اليومية، التي كان قد قدم المشورة لها في الأشهر، التي سبقت صدورها بدءاً من أبريل 2008، علماً بأنه توقف العام الماضي بعد أن كتب آخر أعمدته بعنوان «عام ذهبي» لعلم الآثار في الإمارات، قال فيه: «لا يزال هناك الكثير لنتعلمه عن تاريخ هذه الأرض»، ويتذكر الكثيرون إلى اليوم عموداً كتبته، أنتقد فيه كتاباً مدرسياً مقرراً في مادة التاريخ، الأمر الذي دفع المسؤولين إلى استبداله بكتاب آخر مطور باللغتين العربية والإنجليزية من تأليف هيلير مع محمد المبارك، وبيتر ماغي.

Email