هل يندم البريطانيون على الخروج من الاتحاد الأوروبي؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد مرور سبعة أعوام على استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، ثم تطبيق هذا القرار منذ يناير 2020، أصبح كثير من عامة البريطانيين، الذين صوتوا لصالحه آنذاك بنسبة 52 %، يقرون الآن بأنهم وقعوا ضحية وعود براقة، لم يأنسوا منها نفعاً في حيواتهم العملية، كوقف شلال هجرة الأوروبيين، واللاجئين غير الأوروبيين إلى سوق العمل البريطاني، والحد من الرسوم الاتحادية البالغة نحو 55 مليون جنيه استرليني يومياً، والتخلص من الأنظمة الاتحادية، التي تقيد حرياتهم وتجافي قواعد ديمقراطيتهم العريقة، والتحرر من القيود القضائية الأوروبية ولا سيما المحكمة الخاصة بحقوق الإنسان.

من حصيلة السجالات والمناظرات الداخلية والقارية الأوروبية، التي لم تنقطع بهذا الخصوص، ندرك أن من تولوا الترويج لهذه المزايا المفترضة هم مزيج من بعض النخب السياسية التقليدية والحيتان الاقتصادية، وقادة الرأي الشعبويين، الذين التقوا، واعتمدت رؤاهم الانعزالية إما لتحقيق مصالح فئوية ذاتية ضيقة، وإما عن أحانين شوفينية متطرفة لزمن سيادة الامبراطورية العظمى، التي لا تغرب عنها الشمس، وإما عن انحياز لمزيد من التلاحم الأنجلو ساكسوني مع الشريك الأمريكي عبر الأطلسي، وربما نشأ هذا التوجه الانكماشي والتمحور على الذات القومية ومناكفة الفكرة الاتحادية برمتها، لدى قطاع من هؤلاء، عن هذه الدوافع معاً.

بهذا الصدد أفاد استطلاع للرأي، نشرت نتائجه مؤخراً صحيفة الاندبندنت، أن ثلثي البريطانيين يؤيدون إجراء استفتاء جديد للانضمام للاتحاد الأوروبي مرة أخرى، وأن متوسط معدل النادمين على مغادرة الاتحاد، الراغبين في العودة إليه لسبب أو آخر، لا تقل عن 57 %، واللافت أن هذه الأغلبية ترى أن الـ بريكست»، وليست تداعيات أزمتي وباء «كوفيد 19» والحرب الأوكرانية، هو علة تدهور اقتصادهم وضمور قدرتهم على التأثير خارجياً والتحكم في حدود بلادهم، وذلك على خلاف المكاسب، التي بشر بها مؤيدوه.

ومن تعقيب الاندبندنت على المشهد نفهم أن الذي يختلف عليه البريطانيون، اليوم، لا يتعلق بمباشرة استفتاء ثان من عدمه، وإنما على توقيت هذه الخطوة، وما إن كان من الأنسب التعجيل بها في هذا العام 2023 أم التريث، والقيام بها في غضون الأعوام الخمسة المقبلة !

والحق أن المتأمل في تفصيلات ما طرأ على أحوال البريطانيين، خلال السنوات القليلة من عمر البريكست، لا يشك في حاجتهم الملحة اليوم قبل الغد للعودة إلى بيت الطاعة الاتحادي، وحسبنا في تبرير هذه القناعة الإشارة إلى شهادات المؤسسات المحلية والأوروبية والدولية، التي تجمع على أن معظم أزمات بريطانيا، الاقتصادية بالذات، تعود إلى التمرد على هذا البيت ومحاولة التحليق بعيداً عنه، كيف لا، وقد «أضحى الافتصاد الكلي للدولة البريطانية بعد البريكست بعامين فقط أصغر عموما ًبنسبة 5.5 % مما كان متوقعاً له فيما لو بقيت عضويتها في الاتحاد».

السرعة القياسية لاستشعار البريطانيين لخسارتهم جعلت جاى فيرهوفشتات، المفاوض الاتحادي الأوروبي، يعلق ساخراً بأن «البريكست كان خدعة، ساقت البريطانيين، في استفتاء 2016، لاستبدال سيارة جاغوار الفارهة بسيارة فورد فيستا المتواضعة»، وبعد أن يفند الرجل دعاوى أنصار البريكست، وكيف أنهم لم يكونوا صادقين مع أبناء شعبهم، يؤكد أن سياسياً بريطانياً شاباً سيضطلع ذات يوم، بقيادة بلاده، للانضمام مجدداً للعائلة الأوروبية حيث تنتمي.

العبرة هنا أن بعض القادة الحزبيين وصفوة من المتنفذين، وجماعات من رجال الصحافة والإعلام، لا يتورعون أحياناً عن بيع الأكاذيب وتضليل شعوبهم. يحدث هذا بدوافع انتخابية أو تحقيقاً لمصالح أنانية أو تأثراً برؤى وحسابات وتوقعات مغلوطة، حتى في أعتى النظم الديمقراطية.

قصة النموذج البريطاني مع البريكست تبدو مثالية في هذا السياق، لكن الواقع لا يعدم وجود أمثلة أخرى لا تقل دلالة، ومن ذلك أن بعض نظم الدول المدرجة على رأس الديمقراطيات الرائدة عالمياً، اتخذت قرارات بشن حروب خارجية مدمرة وباهظة التكلفة، بناء على بيانات وتبريرات خبيثة أو مرسلة، ثبت أنه لا محل لها من الصحة والصدقية.

في كل حال، لا يعيب البريطانيين استدراك خيبتهم من الاستفتاء الأول باستفتاء ثان، وإنما يعيبهم الإصرار على خطيئة اتباع المرجفين في مدينتهم ضد التوجه الاتحادي، بكل توابعها المنكرة.

 

Email