فرنسا.. حتى لا يكون الهدوء الذي يسبق العاصفة

ت + ت - الحجم الطبيعي

عاشت فرنسا الأسبوع الماضي مرّة أخرى على وقع احتجاجات وأحداث عنف يُجمعُ المراقبون أنّها الأعنف في تاريخ الحراك المجتمعي.

وجاءت هذه الاحتجاجات بعد مقتل الشاب نائل، فرنسي من أصول مغاربية في إحدى ضواحي العاصمة الفرنسية باريس.

وكانت رواية الشرطة الفرنسية الأولى أنّ الشاب أراد دهسهم، لكنهم تراجعوا عن ذلك بعد نشر وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي صور فيديو الحادث.

وأثبتت التحقيقات الأولية أنّ الفتى نائل أصيب برصاصة قاتلة في الصدر أطلقها الشرطي من مسافة قريبة أثناء عملية تدقيق مروري، ويواجه الشرطي الموقوف البالغ 38 سنة تهمة القتل العمد.

وأعقبت الحادث أعمال عنف واسعة النطاق في مدن وقرى عدة فرنسية، تواصلت على مدى ستّة أيام وأسفرت إلى حدّ الآن عن تدمير كبير في المنشآت العمومية من مدارس ومكتبات ومحافظات، كما شمل الدمار المؤسّسات والمتاجر وأجهزة المراقبة قدّرتها منظمة الأعراف «ميديف» بـ 1 مليار يورو، وواجه الأمن الفرنسي هذه الاحتجاجات بصرامة كبيرة، وتمّ حتى يوم أمس الثلاثاء اعتقال 3545 شاباً وشابة وما يقرب عن 600 آخرين في حالة تفتيش.

وتُثبت الأرقام أنّ 30 في المائة من الموقوفين هم من القاصرين بالمطلق (بين 12 و15 سنة)، فيما يبلغ معدّل أعمار كلّ الموقوفين 17 سنة.

ويؤكّد الملاحظون أنّ مقارنة ما يجري فرنسا بمجمل الحراك الاجتماعي السابق تفيد أنّ الاحتجاجات انطلق أغلبها من الأحياء الفقيرة، ولكنّها امتدت لتشمل جلّ المدن الفرنسية المتوسطة والكبيرة، وأنّ هذه الأحداث أصبحت أكثر عنفاً ونسبة الشباب وصغار السنّ فيها أكبر.

المعاينة أثبتت كذلك أنّ العنف والنهب اللذين ميّزا الاحتجاجات الأخيرة في فرنسا، لا تحركهما الأفكار والسياسات، وأنّ ممارستهما هي في الغالب استعراض للقوّة أو لتهيئة الأرضية لمزيد تركيز الجريمة المنظمة وتغييب الدولة بالكامل بعد أن غيّبت السياسات المتبعة الخدمات العمومية في جلّ هذه المناطق، وعلى عكس كلّ الاحتجاجات والثورات السابقة التي حركتها الأفكار، فإنّ العنف في الاحتجاجات الأخيرة في فرنسا ليس في خدمة فكرة أو مشروع كبير، ولكن في أغلب الأوقات هو عنف من أجل العنف أو لضرب منظومة الدولة لغايات إجرامية.

المعاينة والأرقام أثبتا أيضاً أنّ نسبة البطالة في هذه الأحياء الفقيرة تفوق 32 في المائة، وأنّ هذه الأحياء الفرنسية تغيب عنها أهمّ المرافق الأساسية، وكلّ هذه العوامل مثّلت أرضية خصبة للانحراف وتنامي الجريمة المنظمة ولتجارة المخدرات وغير ذلك من المؤشّرات الدالّة على الغياب التدريجي للدولة.

إنّ هذه العوامل تُثبت أنّ محاولات اليمين المتطرف الفرنسي ربط الاحتجاجات فقط بعامل الهجرة، توظيف سياسي يجانب الحقيقة، والحقيقة أنّ الأغلبية الساحقة من المشاركين في الاحتجاجات وأعمال العنف والنهب هم أساساً فرنسيون قلباً وقالباً، أو هم فرنسيون من أصول مختلفة، أخفقت السلطات الفرنسية عبر تاريخها في إدماجهم بطريقة أفضل، أو هم من الرافضين لمنظومة لا تلبّي حاجياتهم الأساسية وحقهم في حياة كريمة.

الحقيقة كذلك هي أنّ سياسة التفرقة لأسباب اجتماعية واقتصادية أصبحت غير مقبولة، وأنّ هذه السياسة سهّلت ظهور أشكال أخرى من السلوكيات الانفصالية لأسباب عرقية ودينية وسياسية.

ويمكن القول إنّ الخطاب الرسمي المنقطع عن الواقع وسلوك البعض، وخصوصاً الفئات الضعيفة والشباب الرافضين للمنظومة ككلّ، إضافة إلى تنامي ظاهرة الحقد بين الفئات وبين التنظيمات وبين الأحزاب وبين السياسيين وبين المهمّشين والمنظومة وبين الحاكم والمحكوم عموماً، كلّها عوامل عقّدت المشهد العام في فرنسا وهي تفسّر تنامي ظاهرة الاحتجاجات.

الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند أكّد في حديث صحفي أول أمس، أنّ «تغوّل المنطق الفرداني على منطق الدولة ومنطق الجمهورية يطرح مشكلة إخفاق السياسات عموماً وسياسات الإدماج تحديداً، لكن الحلّ ليس في ممارسة العنف وإنّما في الحوار والديمقراطية».

وطالب هولاند بضرورة معالجة الأسباب العميقة، ويبدو من خلال تحركاته الأخيرة المكثّفة أنّ الرئيس الفرنسي الحالي ايمانويل ماكرون بدأ على الأرجح يتّجه إلى معالجة الأسباب.

إنّ عودة النظام في الديمقراطيات لها أسس، وتستوجب وقتاً واحترام بعض القواعد، ومن هذه الأسس، اعتماد سياسات قادرة على تحقيق إدماج فعلي للفرنسيين من أصول أخرى، ومن هذه الأسس بناء اقتصاد قويّ ونمط تنمية متوازن يقضي على الإحساس بالظلم الطاغي لدى شباب هذه الأحياء الفقيرة، واعتماد سياسة صحية مرنة وإرساء منظومة تعليمية تسهّل عملية الإدماج والإيمان العميق بالعلم والبحث العلمي.

ستّة أيّام من الاحتجاجات كانت أكثر من كافية كي يحسّ الفرنسيون بالخطر الداهم الذي يهدّدهم، وأنّ الباب الوحيد للأمل هو معالجة الأسباب الحقيقية والعميقة، حتى لا يكون الهدوء الذي لوحظ أمس هو «الهدوء الذي يسبق العاصفة».

 

Email